جمعة القفاري.. يوميات نكرة
المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت 1990

“نعم. أنا جمعة القفاري (ما غيره) الذي عاش طوال حياته في عمّان الغربية. لم يغادرها إلا في سفرات سياحية إلى أوروبا، أو للعلاج في أمريكا. نعم، أنا نكرة. نعم. أكاد أسمع أبا حيّان التوحيدي يقول: “ما أقل حياءك، وما أصلب وجهك، وما أوقح حدقتك!” لماذا؟ لأنني صريح وأعترف. نعم، بوسع الإنسان في الأردن أن يولد في عمّان الغربية ويموت فيها، دون أن يكتشف مجاهل “جبل النظيف” الذي تحتاج شوارعه إلى حملة تنظيف، ولا “جبل النزهة” الذي لا يصلح للنزهة. بوسعك أن تعيش من المهد إلى اللحد في عمان الغربية، دون أن تضطر إلى زيارة الشوبك، أو معرفة المفرق، أو المرور بالطفيلة (أحياناً أذهب إلى فندق العقبة بالطائرة وأقضي في الفندق وعلى رمال الشاطئ وفي البحر أياماً، دون أن أخرج إلى الشارع، فأنا أعرف فنادق العقبة… لا العقبة نفسها). نعم أنا جمعة القفاري، أسند خدي بباطن كفي وأفكر في كتابة رواية بعنوان “مغامرات النعمان في عمّان”. ولكن أي مغامرات يمكن أن تجترح في عمان المحافظة العصرية في آن معاً؟ وأنا جمعة القفاري الذي أحب المغامرات ولم يخض في لجتها. جمعة الذي أحب عشرات النساء. من “آنا كرنينا” التي اخترعها تولستوي إلى ناديا لطفي التي اجترحتها السينما المصرية. لا.. لم أحب امرأة واحدة من لحم ودم، مثل هذا الحب يفسد الحلم، يفسد الغموض الذي يضفي على الحياة مغزى مبهماً يثير الفضول. ومن هذا المنطلق، رفضت التعرف إلى بطل أحلامي أديب الدسوقي، خصوصاً بعد أن هزمه. فهد الطنبور في المدرج الروماني. يا إلهي كم أبغض الهزائم. بكيت مثل طفل صغير حين فقد أديب الدسوقي لقبه. ولهذا السبب بالتحديد أرفض لعب ورق الشدة، أو البلياردو، أو التنس، لأنني أخشى الهزيمة. وأديب الدسوقي أقام حوله هالة أسطورية صغيرة. قال إنه تحدى كاسيوس كلاي قبل أن يشهر إسلامه. وتغلب على بطل الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس. ونسجنا نحن حول هالته الأسطورية الصغيرة هالة أسطورية ملحمية. فقلنا إنه هزم أبطال الاستعمار. حتى أنه ضرب بطل أمريكا الشمالية والجنوبية (لم نكن نعرف أن أمريكا الجنوبية معترة مثلنا) ضرب بقبضته العربية الحديدية، فإذا بأمعاء الملاكم الاستعماري، تندلق من بطنه.
من هو جمعة القفاري؟ هل هو صعلوك نبيل؟ أم أنه دون كيشوت هذا العصر؟ لماذا يعجز عن عقد معاهدة صلح بينه وبين نفسه؟ لماذا يخفق في إبرام اتفاقية سليمة بينه وبين العالم؟ هل يعيش غربة داخلية وخارجية تدفعه إلى اليأس الطريف؟ لماذا يعجز عن التأقلم والتواصل والتكيف مع نفسه ومع محيطه؟ لماذا يفشل في الملاءمة بينه وبين الناس والأشياء والقيم والمفاهيم السائدة.
أين يكمن مصدر الخلل.. فيه أم في العالم؟ هل تنبذه الشوارع، وتلفظه المقاهي والمجالس، وتعرض عنه الآذان، وتشيح عنه العيون أم أنه هو الذي عطل قنوات تواصله مع ما يحيط به؟
هل هو ذئب من ذؤبان المدينة أم أنه حمل يتيم يجلس إلى مائدة ذئاب لئيمة؟
هل ينطبق عليه قول “التوحيدي”: “أين أنت عن غريب لا سبيل له إلا الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان؟” ولماذا كان يردد دائماً ما قاله صاحب “الإشارات الإلهية”: “هذا غريب لم يتزحزح عن مسقط رأسه، ولم يتزعزع عن مهب أنفاسه. وأغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيداً في محل قربة”.