عزيزة علي 2013

كتاب يستذكرون صاحب “اعترافات كاتم صوت” بعد أحد عشر عاما من الرحيل تحت سماء جبال سبعة

الرزاز يحدق في زمن الانتكاسات العربية

عمان – الغد   ما الذي يحمله عقد ويزيد على رحيل الروائي مؤنس الرزاز. قبل أحد عشر عاما وتحديدا في الثامن من شباط (فبراير) 2002؛ غاب الرزاز، أحد أبرز الكتاب في الاردن منذ عقود طويلة، لمع اسمه محليا وعربيا في غضون سنوات، كان استهلها بروايته الشهيرة “أحياء في البحر الميت” إبان ثمانينيات القرن الماضي.
حدقت هذه الرواية في زمن الانتكاسات العربية. كان حديث أبطالها المرير عن رداءة الواقع العربي، محرضا للخروج من نفق الاستكانة للمرارة.

لو عاد الرزاز اليوم، ماذ الذي كان سيقوله لنا في زمن انشغل فيه العرب، بمكابدات الخروج على سائد كينونتهم القادم من عهود الاستبداد والاستعمار؟
ينتمي صاحب “اعترافات كاتم صوت”، الى عائلة عروبية، انخرطت في النضال السياسي القومي الوطني لعقود طويلة وشاقة؛ أمه لمعة بسيسو، كتبت قصائد قليلة في زوجها الطبيب المناضل منيف الرزاز، احد رموز حزب البعث العربي الاشتراكي، في مستهل تجلياته.

وكما لو أن القدر أراد لمؤنس ابن هذه العائلة الشامية، التي حفظت لجينات بلاد الشام عبورها الكامل للاقليمات والمناطقية،  في روح أبناء الرزاز القوميين، الذين شربوا عروبتهم من أب؛ كانت حياته مكرسة للعمل القومي والفكري، لم يرد لحياته ان تكون بعيدة عن نهج أبيه، لكن في سياق آخر.
كان هذا السياق .. الكتابة الابداعية؛ فبدأ الفتى الذي عاش في السلط وبغداد وبيروت وعمان، يذهب نحو الرواية كتابة وقراءة، بنهم نادر.

ولد الرزاز في مدينة السلط في خمسينيات القرن الماضي، ثم تنقل مع والده الذي كان منهمكا في العمل السياسي القومي في عدة بلدان عربية، ثم عاد الى الاردن، ليبدأ صعود نجمه كأحد الكتاب الروائيين الجدد الذين ينتمون لجيل الحداثة العربية.
كانت اصدارات الفتى المنهمك بتأمل زمنه، والمنخرط في معمعته.  أصدر كتابه النثري الأول في عام 1973 بعنوان تهكمي “مد اللسان الصغير في مواجهة العالم الكبير”، تلاه في العام 1976 بكتاب لم يفترق في تهكميته ومراراته عن سابقه  “البحر من ورائكم”، ثم كتابه “النمرود” في عام 1980، تلاه “أحياء في البحر الميت”، الذي شكل علامة مميزة في تجربته، قادته الى انتاج سلسلة روايات وكتب، ظلت تحافظ على روح الرزاز المتهكمة، المنشغلة بالهم العربي.

وضمن هذه السلسلة: “اعترافات كاتم صوت” 1986، “متاهة الأعراب في ناطحات السراب” 1986، “جمعة القفاري.. يوميات نكرة” 1990، “الذاكرة المستباحة وقبعتان ورأس واحد” 1991، “مذكرات ديناصور” 1994، “الشظايا والفسيفساء” 1994، “سلطان النوم وزرقاء اليمامة” 1996، “عصابة الوردة الدامية” في 1997، “حين تستيقظ الأحلام” 1997، “ليلة عسل” 2000.

وله في حقل الترجمة: “قاموس المسرح” من روائع الأدب الغربي 1982، “من روائع الأدب العالمي” 1980، “آدم ذات ظهيرة” (ترجمة – مشترك) 1989، “حب عاملة النحل” رواية الكسندر كولونتاي، “انتفاضة المشانق”.

وكتب للأطفال: “سلسلة كتب عن قصة سيف بن ذي يزن”، “قصتي مع الطبيعة”، كما نشر مقالات سياسية يومية في صحف أردنية وعربية عديدة منها صحيفتا الدستور في النصف الثاني من الثمانينيات والرأي في التسعينيات.
وبعدها شغل منصب رئيس رابطة الكتاب الأردنيين عامي 1993 و1994 قبل أن ينتقل للعمل مستشارا لوزير الثقافة.

نال الرزاز جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2000 في حقل الرواية، كما انتخب عام 1993 أميناً عاماً للحزب العربي الديمقراطي الأردني الذي نشأ بعد الانفراج الديمقراطي عام 1989 واستقال في أواخر عام 1999.
اليوم؛ وبعد مرور احد عشر عاما على رحيل الرزاز، يستذكره أصدقاؤه وأحباؤه من الكتاب، في لحظة لم تختلف كثيرا في حاجتها الى رزاز آخر، يتهكم من مراراتها وقتامتها ورداءتها.

الروائي والقاص هزاع البراري، قال “لم يكن الرزاز مجرد كاتب متميز، أو سياسي يزهو بكسله واحتجابه حسب؛ بل كان ظاهرة إبداعية وإنسانية مغايرة ومتفردة، تركت أثرها العميق في الساحة الثقافية العربية والمحلية، كان لها ارتداداتها على كتاب تواصلوا معه، وتأثروا به وبأسلوب حياته، وبنظرته الخاصة للحياة، وحرده المستمر من الواقع العربي المتردي، وجنوحه نحو الغرابة”.

كان الرزاز في عيني البراري “يجترح أشكالا مفاجئة من التعبير المناهض لحالة الاستسلام”.
وهو ما ذهب اليه البراري؛ مستذكرا تأسيسه لجمعيات شبه سرية وغريبة ومدهشة في فكرتها وغاياتها “وإن كانت لا تعدو عن أفكار تبقى بين الأصدقاء المنتمين إلى هذه الجمعيات ضمنياً، فلقد نادي بتأسيس جمعية التنابل خاصة بالكسالى، وجمعية الحردانين للمحتجين على الشكل الحالي للحياة، وعلى الواقع المثقل بالخذلان والتراجع، وهي أفكار روج لها واستقطب لها مؤيدين”.

في منطقة السياسة؛ قال البراري “فقد الرزاز ثقته بالأحزاب، بعد أن خاض تجارب في هذا المجال أورثته الألم والخذلان، فخاض انتخابات رابطة الكتاب في منتصف التسعينيات وأصبح رئيسها، وكان أول من يقدم استقالته منها قبل انتهاء فترة رئاسته، على خلفية حوار حاد حول التطبيع جرى بين المثقفين في الاردن، قبيل اتفاقيات السلام، وفضل أن ينأى بنفسه عن سيل التهم المتبادلة بين عدد من أعضاء الرابطة”.
على الطرف الآخر، يكشف صديق الرزاز ورفيقه في الكتابة الروائية إلياس فركوح ان هناك “مخطوطا لمؤنس عنوانه الاعترافات الجُوانيّة “لم ينشره الراحل”، وهو نص لا يكاد يخرج عن دهشة الرزاز الابدية واستغرابه وتهكمه على الواقع العربي.

وبين فركوح ان المخطوط قيد الحفظ والتأجيل “لم يُتخذ قرار نشره بعد”.

وعن علاقته بما كتب صديقه في هذا المخطوط قال “أعود إليه بين فترة وأخرى. أقرؤه أكثر من مرة، فهو ذو أهمية بالغة”، متمنياً تحويله إلى كتاب، فهو لن يكون مجرد كتاب آخر لمؤنس، إنه الى جانب كونه وثيقة أدبية لكاتبٍ كبير، فينبغي ألاّ يبقى في غرفة الانتظار”.

وأكد فركوح أن اعترافات مؤنس هذه “يشرع فيها بفتح بئر مليئة بالتفاصيل المتشابكة، لا بل بالنوازع الإنسانيّة المشتبكة مع بعضها بضراوة حربٍ لا هدنة فيها. لذا؛ فإنّ منحها ما تستحق من تدقيق وإفصاح مشروح ومشروع يملك معانيه، يتطّلبُ قدراً كبيراً من حِياد بارد لا أمتلكه حتّى الآن – حتّى لحظة التفكُّر في أوراق الاعترافات وتقليب تضميناتها”. وأكد فركوح ان “ذكرى الرزاز تستحق أكثر من محبّة مُعلنة، أو تقديرٍ عابر، أو توصيفٍ لشخصيته في بضع صفحات، أو تثمينٍ لكتابته بكلماتٍ تبذل ما في وسعها لأن تبدو باذخة وممنونة”.

من جانبه؛ قال الناقد د. إبراهيم خليل “فارقنا الرزاز تاركا خلفه ارثا ادبيا شاغرا، فهو من الكتاب الذين يتسمون بجاذبية خاصة، تمكنه من استقطاب الأصدقاء والمعجبين، ولم يكن بين الكتاب الأردنيين من لا تربطه به علاقة صداقة قوية، ومتينة، ولا أستثني من ذلك أولئك الذين كانوا يختلفون مع الاتجاه السياسي أو الفكري الذي يمثله”.

وأشار خليل الى اسهامات عائلة الرزاز في بناء شخصية مؤنس السياسية والثقافية، وتلك الظروف جعلت منه صاحب توجه قد لا يشاطره إياه كثيرون. والرزاز “صاحب شخصية عذبة إلى حد كبير”، بحسب خليل، فهو “على جديته التي تبلغ حد الصرامة، كثير الدعابة، والفكاهة، سريع النكتة”.

وبين ان هذه الروح لا تخلو منها كتاباته السياسية والأدبية، “ففي رواياته الكثير من المواقف الساخرة التي تحتاج لمن يتتبعها ويتناولها في بحث مثلما تناول بعضهم الفكاهة في روايات نجيب محفوظ”.
ونوه الى ان الرزاز كان لديه “شغف بالتجريب على الرغم من أن التجريب لا ينسجم مع الفكاهة، فمن يقارن بين روايتيه أحياء في البحر الميت ومتاهة الأعراب، يكاد لا يصدق أن من كتب الروايتين هو الكاتب ذاته”.
وبين خليل ان الرزاز كان منهمكا بلغة سردية متميزة، ففي متاهة الأعراب، مزج يكشف فيه الرزاز بين الجملة الكلاسيكية والمتداولة على نمط الأسلوب الصحفي، واستطاع التوفيق بين المستويين، وهذا موجود في روايته سلطان النوم، التي تختلف عن رواياته الأخرى بتمعنها في التخييل الغرائبي.

القاصة بسمة النسور قالت ان “الرزاز حالة ابداعية فائقة التميز، عصية على التكرار، ترك للمكتبة العربية إرثا روائيا متميزا، سيحفظ اسمه حيا في وجدان الاجيال القادمة، كما انه قدم انجازا مهما في الكتابة المسرحية والقصصية والترجمة”.
وأضافت النسور “كان لدى الرزاز تجارب في الفن التشكيلي اضافة الى إلمامه بالموسيقى وكان قارئا نهما لكل اشكال المعرفة”، مشيرة الى كتابات الرزاز في الشأن السياسي والفكري في زاويته الأكثر قراءة آنذاك في صحيفة الدستور.
وقالت “نحن ازاء مثقف وفنان شامل عز نظيره في المشهد الثقافي وبالتأكيد ترك فراغا اشك ان يملأه احد. على المستوى الانساني كان شخصية ساخرة بامتياز، نبيلا طيبا كما الاطفال، احيانا لا اظن ان احدا حاز اجماعا انسانيا مثله في مشهدنا المحلي، كان بالنسبة لي صديقا ومعلما سافتقده ما حييت”.

القاص مفلح العدوان، دعا الى اعادة قراءة المنتج الابداعي للرزاز بتأن “فهو ثري بكل تداعياته، وتفاصيله، شكل بالنسبة لي ولكثير من الكتاب مرجعا، وانموذجا في الكتابة، بخاصة في جرأته على التجريب، والحداثة”.
ولفت العدوان الى اننا في ذكرى الرزاز “نستعيده بإنجازه، بعد أن تجاوزنا مرحلة الرثاء والاحتفاء بالغياب.. هنا يكون استحضار المبدع والابداع؛ الرواية والراوي، بتنوع التجرية، وهو ليس بعيدا عن تفصيلات رواياته، التي تصدر عن فكر واحد، رغم تنوع سرديات تلك الروايات”.

“نعم هو مؤنس الحاضر”، بما انتج الآن، بما كتب، بتلك الروايات والقصص، وفق العدوان، “فكلما قرأته تكون هناك التفاتة الى جوانب كانت غائبة كل تلك السنين، وكأن جذوة الابداع الحقيقي، تبقى متقدة.. هذا حال ابداع مؤنس، وأثره الابداعي على كل من قرأه، فهو أسس لمدرسة من الكتابة هو رائدها.. فعليه السلام”.

 http://www.alghad.com/index.php/article2/606275/%D8%B1%D8%B2%D8%A7%D8%B2-%D9%8A%D8%AD%D8%AF%D9%82-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%83%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D9%87.html