عمر فارس

مؤنس الرزاز / الهزيمة تتجسّد

بعد الرحلة الطويلة مع مؤنس الرزّاز وأعماله: اعترافات كاتم صوت، زرقاء اليمامة وسلطان النوم، جمعة القفاري، مذكرات ديناصور، الذاكرة المستباحة، قبعتان ورأس واحد. سأتحدّث قليلاً عن هذه الرحلة الجميلة، مستعيناً بكتاب د.غسان عبد لوحة بريشة مؤنس الرزاز.الخالق: الأعرابي التائه (مقاربات في تجربة مؤنس الرزاز الروائية)، وجميع الإقتباسات المذكورة هي من الكتاب نفسه.

بدايةً، لا يمكن أن أنسى التالية أسماؤهم: الختيار (مراد)، يوسف، أحمد، سيلفيا، الزوجة، البنت، مراد الصغير، جمعة القفاري، كثير الغلبة، وداد، نعمان العمّاني، نانسي، عائشة، سلطان النوم، زرقاء اليمامة، بئر الأسرار، علاء الدين، سامبو، عبد الله الديناصور، زهرة، منقذ، آريا، ذبابة، عبد الرحيم، سعاد، فتحي البقّال. أتمنى أن لا أكون نسيت أحد.
أبدع مؤنس في خلق شخصياته، وتأطيرها حسب الفكرة التي يُريد أن يسلّط الضوء عليها من خلالها. بالأحرى، هو عالم نفس متمرّس؛ يُدخل في أصغر التفاصيل وأكثرها أهمية، ويجسدها لنا. إتقان مُطلق بالفعل، إذ عشقت شخصيّاته، أحببتها، صرت أتخيّلها في الناس أمامي، أقلدها أحياناً. لكني أحسست مؤنس ذكوريّاً بعض الشيء، إذا لم أحب الشخصيات الأنثويّة التي خلقها قدْر ما أحببت جمعة القفاري مثلاً! وهذه دعابة بالطبع.

لم يُبقِ الرزاز هزيمةً في جسد العربيّ إلا وتحدث عنها؛ خريف العمر، الإعاقة الفكريّة، الإقامة الجبريّة، الاغتيالات، السلطة والمثقف، والحاكم والمحكوم، انهيار الاشتراكية والإتحاد السوفييتي، تراجع القوميّة العربيّة، موت عبد الناصر، اليوميّ الممل المعاش في الوطن العربي، عمّان، الإحباط، الخوف، القلق، الكبت الجنسي، العشائرية القبلية، الانفصام في الشخصيّة العربية، وبعض التجليّات الفلسفيّة الأوسع في روايته: (زرقاء اليمامة وسلطان النوم).

“مؤنس كتب ما كتب لا ليسلّي القارئ، بل ليصدمه بواقع واقعيّ وخرافيّ في آن واحد، لا ليقول أن هذا الواقع محتوم، بل ليؤسس لإدراكه ونقده وتجاوزه نحو وعي تنويري إنساني ديمقراطي ونحو دولة العدل حيث القوانين والمؤسسات والوطن.”

اتّشحتْ تجربة الرزاز بالتجديد، إذ حملتْ روايته الجمالي الجديد والمبتكر، والفكريّ الجامد في آن، فزاوج بينهما بطريقة رائعة تجذب القارئ. بأسلوب الفلاش باك والفلاش فورورد زمانيّاَ ومكانيّاً. “ما من أحد أحبّ وأتقنَ المراوحة والمزاوجة بين أنماط مختلفة من السرد أكثر مما كان يحب ويتقن، ربما لأنه كان قادراً على إدراك السخرية العارمة أو الكوميديا السوداء أو الفلسفة العميقة التي يمكن أن تثوى في هذا الضرب من التنويع بين أنماط ومضامين السرد.”

يتّضح للقارئ لتجربة الرزاز، كمّ الفكر الهائل الذي ينطوي عليه عقل هذا الكاتب/المفكر بالفعل. والهمّ الجمعي الذي يحاول أن يبثّه في إعماله كلها.

“يقتضي الدخول إلى عالم مؤنس الرزاز الكثير كثيراً من الإضاءات التاريخيّة والاجتماعية والفلسفية، لا لأن هذا العالم الروائي يبدو فريداً بالمقارنة مع العوالم الروائيّة الأخرى، في الأردن والعالم العربي، وإنما لأنه ينطوي على توق استثنائي لمقاربة حقائق وأشياء كليّة عبر نظرة شموليّة”

يتحدث الدكتور عبد الخالق هنا، عن مقارنة ما بين الروائيين وكتاباتهم في الفترة التي عاصرها الرزاز وما قبلها، ويخصه بالحديث في الجزء الثاني من الكلام المنقول:
“إن استقراء موضوعيّاً لمُجمل السرد العربي قبل هزيمة حزيران (1967) يمكن أن يُحيل إلى محصّلة مؤدّاها أن هذا السرد قد اعتاش على (الرومانتيكيّة السياسية والاجتماعية) كما أنتجتها وأعادتْ إنتاجها الذات الفرديّة للسارد، فإن استقراء موضوعيّاً لمُجمل السرد العربي بعد (67) يمكن أن يُحيل إلى محصّلة مؤدّاها أن هذا السرد قد اعتاش على (النقدية السياسية والاجتماعية) كما أنتجتها وأعادت إنتاجها الذات الفرديّة للسارد. ومع أنني لا أقلّل من شأن الموهبة والتجربة الذاتيّة للسارد إلا أن ما أود تأكيده هنا، هو أن هناك من تصفّح أغلفة وعناوين والتقط مصطلحات متفرّقة ثم أعاد إنتاجها في (كولّاج) روائي وهم الأغلبيّة الذين استمرأوا الانزلاق على سطح المرحلة، وهناك من عانى فعلاً وقرأ كثيراً وبعمق ثم أعاد إنتاج ذلك كلّه في (خطاب روائي) وهم الأقلية الذين لم يدّخروا وِسعاً لتشخيص المرحلة تشخيصاً فكرياً رفيع المستوى من خلف قناع الراوي.”

في النهاية، أعتقد أنني لم أتحدّث كثيراً، فكتاب الدكتور قال ما أرغب في قوله، بل وأكثر. بعد هذه القراءات، أحسست شيئاً ناقصاً لدى الرزاز، لا أعلم ما هو. ربّما الفرح. وهذا ما يدعوني للتساؤل، وأنا المصدّق لكل ما يرى مؤنس، هل الفرح حقيقيّ؟

ملاحظتان:

1) لم تُبنَ هذه القراءة على أساس علمي، وإنما على قراءات شخصيّة، ونظرات من قارئ عادي.
2) كل الآراء المذكورة، كانت استناداً إلى ما قرأته للكاتب. وسأختم رحلتي مع أدب الأردني التي بدأتها به، مع روايتيه: أحياء في البحر الميّت و متاهة الأعراب.

أختم بهذه المخطوطة التي لم تُنشر، والتي قرأتها بخطّ يده، من خلال كتاب الدكتور عبد الخالق التي أرسلتها له الكاتبة سميحة خريس. وهناك بعض الكلمات التي كانت غير واضحة بسبب الخط:
“عمّان تدللني .. عمان الملاذ
15 / 7 / 1997

أشعر بعد كلّ ما جرى ومرّ بأسرتنا من زلازل وأعاصير تكاد تكسر تماس حدود الفنتازيا واللامعقول وتتخطّاها، إنني مستقرّ في عمان. وإن عمان ما بعد عودتي للإستقرار نهائيّاً فيها عام 1982 تدللني، تعاملني معاملة خاصة استثنائية، وتحتضنني كملاذ. كأنها تداوي جراحي وتمسح عليها. والحق أن هذا الشعور تعزز بعمق وأصبح حقيقةً واضحة بعد 1989 حين بدأ الإنفراج الديمقراطي النسبي، وترسّخ تماماً بعد أن أمر الملك بإرسالي إلى لندن لمعالجتي ضد الكآبة والإدمان عام 1994.

تذكروا يا أعزائي، وعموم عشائر الرزايزة أنني ابن رجل قيادي بعثي عارض النظام الأردني بلا هوادة حتى وفاته، وأنني انضممت إلى أجواء المعارضة فور عودتي إلى الأردن عام 1982 . وأنني لم أكتب كلمة مديح واحدة في زاويتي اليوميّة في صحيفة الدستور أو في صحيفة الرأي لامتداح النظام.
ومع ذلك كله، ها أنا أشغل موقع مستشار وزير الثقافة ومستشار مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، وأحسب نفسي على المعارضة، وأداوم كما أشاء دون ضغط أو سؤال. بعد تجربتي في عاصمتيّ الرفاق، عليّ أن أعترف أن عمان تدللني من موقع الوفاء. دون أن يعني ذلك أنني لا أوجّه نقداً مُرّاً (بعضه مكتوب في الصحف وبعضه أُلقي كلمات في ندوات) إلى سياسة البلد الخارجيّة ثم الداخليّة.

بعض أصدقائي من الثوريين الذين لم يعرفوا الآلام والجراح والمرارة والمِحن التي عرفناها في عاصمتيّ الرفاق، يعاتبونني حتى عندما أقول لهم أنني أتحدث عن الجانب الإنساني لعمّان لا الجانب السياسي. هم أحرار مع حبّي لهم، لكنني أملك من الجرأة الأدبيّة ما سيجعلني أعترف بأن التسامح الذي توافرَ لي (ولكثير من أمثالي) في عمان، ودون المطالبة بمقابل أو تسديد فواتير، ليس معهوداً في هذه المنطقة من العالم.”