١٩٦٣/١٠/٩ “لمعه لمنيف : لا أظن بان طفل آخر يشعر ويحس بغياب والده بهذه القسوة وبتلك الشدة والعمق..”
منيف الحبيب ،
كم كان رائعاً أن نستلم منك رسائل في ثلاث أيام متوالية.. يطل كل صباح ويأتي البريد في 7 الشهر يحمل رسالتين لي ورسالة لمؤنس منك ومن جمال(1) ورسالتيك مؤرختين في 30 و2 والبارحة أتى البريد برسالة لي ورسالة لمؤنس مؤرختين في 27، واليوم طرت من الفرح وانا استلم رسالة منك مؤرخة في 5، أي قبل بضعة أيام وهذا تحسن ليس بعده من تحسن.. تحسن يستحق التسجيل والشكر! وصلت لمؤنس رسالة منك ومن امين(2) وانا لحد الآن اقاوم اغراء فتح رسالتك له! ولكني اشعر بأن هناك فرقاً كبيراً بين ان يفتح رسالتك بيديه او أن يجدها مفتوحة فسأحاول مقاومة الاغراء ولكن إن ضعفت وفتحتها فأعزي نفسي بأني أثبت إستقلاله الشخصي بتركي دائماً رسائل اصدقائه له مغلق! فيعطيني إياها بعد ان يقرأها.
رسائلك هذه رائعة نقرأها انا ومؤنس عدة مرات ونعيد فقرات محببة منها ونعلق عليها بغبطة إذ نشعر بأن نفسيتك كما نحب وصحتك كما نتمنى.. واما عندما اقول لمؤنس اترى كم يحبك ابوك ؟ هل يحب أب ابنه كما يحبك أبوك ؟ يسرح بنظره ثم يجيب بضيق ولكني اريده هنا عندي، اريد ان اشعر بوجوده ولا افهم لماذا يجب أن يكون بعيداً! إنه يحتاج إليك.. يحتاج اليك كما لم يشعر بذلك من قبل ابداً فهو قد بدأ تلك المرحلة التي ينفصل فيها الطفل عن امه ويتجه بعقله وقلبه لوالده يتخذ منه مثلاً أعلى وركيزة وصديق.. وانا قد عملت دائماً ليأتي اليوم الذي يتجه فيه اليك بدون حواجز وبكل انفتاح قلبي ونفسي.. فأنا استطيع ان اكون صديقته ومحل حبه كله ولكني لا استطيع أن اكون له مايمكن ان تكونه بكل ما يعني ذلك. وانا احاول جهدي ان أملأ الفراغ الذي يتركه غيابك ولا اتركه ابداً لوحده بعد عودته من المدرسة. وهكذا اصبح معتاداً على بقائي في البيت الى جانبه الى درجة أنه إحتج إحتجاجاً شديداً قبل يومين فقد حدث ان كنا عند طبيب الاسنان مها(3) وأنا وعمر يتمشى معي اينما ذهبت و طلبت مني ان اتغدى عندهم فذهبت معها و تركت له خبراً بأن يلحق بي فلم يفعل لان كان لديه دروس وعندما عدت للبيت حوالي الخامسة والنصف لم يكن يبدو عليه الراحة، وعندما ذكرته بأن هذه هي المرة الأولى التي يحدث ان يعود فيها ولا يجدني منذ أن ذهبت انت من البيت أجاب ” لو! فإذا حدث ذلك ثانية فأرجو ان تعودي الى البيت قبل رجوعي اي حوالي الساعة الثالثة والنصف! طلب معقول! وانا اشعر معه فيكفيه انه يتحمل غيابك المستمر! وهذا بالنسبة له لا يمر كما يمر بباقي الاطفال لا اظن بأن طفل آخر يشعر ويحس بغياب والده بهذه القسوة وبتلك الشدة والعمق.. فقد حدث في السابق ان كان له اصدقاء اكبر منه وكان والدهم بعيداً ايضاً ولكن امهم كانت تستغرب تصرف مؤنس وتقول بأن اولادها لايكادون يسألون عن أبيهم! ويبدو أن عمر سيكون مثله في شدة الحساسية وشدة التعلق بنا والعاطفة المتدفقة. فصدقني بأنه لا يمر يوم بدون ان يسأل عنك أو يأتي على ذكرك في حديثه مع أولاده (ألعابه)!
قطة لعمر
والبارحة كانت فرحته كبيرة إذ اتى سعد الصغير ومعه هدية رائعه لعمر هدية انتظرها طويلاً وهي عبارة عن قطة صغيرة! إذ أن لدى سعد قطة صغيرة تعجب عمر أشد الاعجاب وفي كل مرة نذهب فيها لعندهم يطلب مني ان اشتري له واحده مثلها ويمضي ساعات في اللعب معها ومع سعد. فوعدته منور بأن ” تتصيد” له واحدة وهكذا كان فقد اشتركت العائلة كلها في مطاردة قطة صغيرة كانت تقطع الدرج عندهم عند نزولهم صدفة! ووضعوها في باكيت ورق وحملوا الكنز الثمين وغيروا وجهتهم ليأتوا لعمر بهديته وليتك سمعت الزعيق والصراخ والفرح والزفة التي صعدت فيها “القطة” الى البيت، فقد صرخ سعد من تحت ” عمر هي البسه لقيتها إلك”! فهبط عمر الدرج وهو يزعق ويصرخ الى كل من حوله يزف اليهم البشرى السعيدة! وقد إستفاق اليوم في الخامسة وقد سمع صوتها خارج الشباك فناداني ” ماما بدها حليبو وأنا كمان”! والآن بينما اكتب لك يلعب عمر بالطناجر حولي ويسوق الغطاء كعجلة سيارة وتصدر عنه اصوات الفرامل والزامور! وقبل هذا كان ينادي “ماما..ماما ” وعندما رفعت رأسي لأرد عليه اسرع يقول ” لأ مش إنت انا بنادي بنتي! (أي قطته) وقد نامت بعد ان اكلت فجلس بجانبها يغني لها ثم همس قائلاً ” نامت بنتي ” .
انه لا يذهب بانتظام الى المدرسة كما ذكرت لك سابقاً في احدى رسائلي فأنا احتاج اليه وهو يفضل البقاء معي إلا إذا نزلت معه إلى المدرسة والبارحة حاولت ان انزله مع عديله فرفض وقال لها انا عند ماما بدي اروح معها مشوار”. ونحن نردد معاً في البيت جميع قصص الاطفال وتراتيلهم ويحفطها كلها بذكاء كبير ويعرف عدد كبير من الكلمات الانجليزية يعلمها له مؤنس ويعد للسبعة وهذا تقدم ومكاسب اكبر مما يستوعبه من هم في سنه عادة. لاريب انه متفوق بشكل كبير.
أرجو أن تكون رسائلنا قد عادت الى الوصول بانتظام فنحن نكتب بانتظام دائماً وعلى البريد الأمل بأن ينتظم هو بدوره وقد كانت النتائج حسنة جداً هذا الاسبوع فالنظام ممتاز جداً فنرجو أن يستمر إلى أن تعودوا!
أما بالنسبه للأغراض الشتوية فقد أرسلتها خوفاً من أن يداهمنا جو بارد آخر وقلت في نفسي أن يثقل الحمل خيرمن أن أنتظر على آمال تتأرجح صاعدة وتعود إلى الهبوط.. وتأتي أيام تبرد فيها فأندم.ولكني لم أرسل الروب دي شامبر لأنك لم تذكره في رسائلك السابقة ولكن سأرسله في نهاية الشهر إذا ما استمرت الأحوال على ماهي عليه.
إن نفسيتي اليوم حسنة جداً فقد استفقت وشعرت بأن الجو أحسن وانني اشعر بالثقة والأمل الكبير في ان تنقشع أخيراً هذه الغيوم.
هل وصلتك الحوالة؟ وصل عمر الآن لجانبي وصعد على كرسي وحدق قائلاً ايش اكتبي فقلت له ” اكتب لبابا” فقال معليش ادرس معاكي.. انا عندي قلم اعطاني اياه عبد”! فضحكت وتركت الكتابة لأعطيه ورقة، وهو حقيقة يملك قلماً من الحبر الناشف لطشه من عبد الذي يحضر لنا بعض أغراضنا من السوق. ولكني قد انتهيت من الكتابة فلن يضايقني.
قبلاتنا لك مع حبي وأشواقي.
لمعه
الرسالة بخط اليد:
(1) (2) د.جمال الشاعر وامين وقد كانا يتبادلان الرسائل مع مؤنس باستمرار ( ولكن للأسف لم نجد اياً منها).
(3) مها بسيسو زوجة د. وليد بسيسو شقيق لمعه.