كتبوا عنه


فخري صالح - راهنيّة مؤنس الرزاز

يبدو عمل الروائي الصديق الراحل مؤنس الرزاز راهناً في هذه المرحلة من حياة العرب المعاصرين. ويمكن النظر إلى تجربته بوصفها تفكرا في العالم والوجود العربي، من خلال السرد والكتابة؛ فهو لم يسع إلى إمتاع قارئه بما يحكيه من حكايات بل آثر إقلاق راحة هذا القارئ دافعا إياه إلى مشاركته التفكير في ما آل إليه حالنا، وفي الأسباب البعيدة والقريبة التي جعلت العرب يواجهون مأزقا وجوديا معقدا في الزمان الحديث.

 

روايات مؤنس الرزاز مسكونة بهاجس الكشف عن المشكلات العميقة التي يواجهها عرب هذا الزمان. ولهذا كانت ظاهرتا الاستبداد والعسكريتاريا، والتحام هاتين الظاهرتين معاً، الثيمة الرئيسية التي تركزت حولها تلك الروايات ، خصوصا في

 أعماله الثلاثة الأولى: أحياء في البحر الميت، واعترافات كاتم صوت، ومتاهة الأعراب في ناطحات السراب، التي يمكن عدها ثلاثية روائية تسعى للكشف عن بنية الاستبداد وانهيار المشروع النهضوي العربي نتيجة تحالف العسكر مع العصبيات والانتماءات الطائفية والقبلية الضيقة وأصحاب المصالح والتبعية الظاهرة والخفية لأنظمة الغرب الاستعمارية. ويستحدم مؤنس في هذه الروايات، لتحقيق غاياته الفكرية، تقنيات حداثية وأشكالا متداخلة ومتقاطعة من الحكي، جاعلا الراوي يتدخل في السرد لينتشل القارئ من وهم السرد، منبها إلى أن ما يجري هو تخييل لا حقيقة متعينة. لكنه من خلال لعبة كشف أقنعته السردية، أو ما يسمى في تصنيف الأشكال السردية الميتاـ سرد أو الميتافيكشن، يعمل على التشديد على تعالق السردي والفكري، أو تنبيه القارئ إلى مسعاه لتأويل الحالة العربية، والوقوع على البنيات الشعورية واللاشعورية التي تقيم في أسس الدوافع السلوكية، الفردية والجماعية، للجماعة العربية في الزمان الحديث.

 

بالتوازي، أو ربما بالتقاطع مع المسعى السابق، انشغل مؤنس في رواياته بقضايا الحداثة والنهضة والتقدم، بوصفها هاجسا روائيا أولا، وفكريا في المرتبة الثانية. ولعل هذا الهاجس هو ما يلحم ثلاثيته الروائية برواياته التالية التي كرسها لقراءة التحولات الهجينة التي ضربت بعصاها مدينة عمان في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، محولة مدينة صغيرة هادئة إلى مدينة استهلاكية حديثة ذات علاقات اجتماعية واقتصادية مشوهة. ويستخدم مؤنس، لجلاء هذه التحولات، شخصية «أبله العائلة»، في «جمعة القفاري» على سبيل المثال، ليعرض من خلال عيون بريئة كيف يتغير البشر وتتغير علاقاتهم وتعصف بهم شهوة الثروة.

 

إن في إمكاننا أن نلاحظ، سواء في روايات مؤنس أو قصصه أو مقالاته، خيطا ناظما يتمثل في انشغاله بقضية تقدم العرب وخروجهم من قبضة التخلف والاستبداد السياسي المقيم بين ظهرانيهم ينغص عليهم عيشهم ويمنع دخولهم العصر الحديث. وقد حاول في رواياته البحث عن تأويل سردي لهذا المأزق الذي علق العرب في شبكة خيوطه المعقدة، فاستخدم نظريات كارل غوستاف يونغ النفسية ودوافع السلوكين الفردي والاجتماعي لدى إريك فروم، وقوساً واسعا من النظريات الفكرية والسياسية التي استلهمها في تفسير أسباب هذا المأزق ودوافعه.

 

كان مؤنس مهموما بحل معادلة التقدم والحداثة في الحياة العربية المعاصرة، راغبا في التعرف على أسباب العطالة التاريخية، والمأزق الحضاري الذي يعبره العرب المعاصرون: لماذا تقدم الآخرون وتأخرنا نحن؟ لكنه لم يسع إلى النظر إلى ذلك من خلال البحث الفلسفي أو السوسيولوجي، بل من خلال الرواية، عبر تشييد عالم من البشر والأحداث. دفعه إلى ذلك معرفته بأن الشكل الروائي يوفر أدوات ملموسة للإجابة على الأسئلة المجردة، فالرواية هي الشكل الذي يقوم بتحويل المجرد إلى ملموس، فيما الفكر يحول الملموس إلى مجرد. وقد كان مؤنس ميالا إلى رؤية الأشياء والأفكار وهي تتحول إلى وقائع وأحداث تسيل حياةً وعواطفَ وصوراً تضيء الأفكار وتقدم تأويلات متعددة لها، وشرحا مواربا لدلالاتها ومعانيها.

 

الدستور  02-07-2013

 


عمر فارس - مؤنس الرزاز / الهزيمة تتجسّد

 

بعد الرحلة الطويلة مع مؤنس الرزّاز وأعماله: اعترافات كاتم صوت، زرقاء اليمامة وسلطان النوم، جمعة القفاري، مذكرات ديناصور، الذاكرة المستباحة، قبعتان ورأس واحد. سأتحدّث قليلاً عن هذه الرحلة الجميلة، مستعيناً بكتاب د.غسان عبد  الخالق: الأعرابي التائه (مقاربات في تجربة مؤنس الرزاز الروائية)، وجميع الإقتباسات المذكورة هي من الكتاب نفسه.

 

بدايةً، لا يمكن أن أنسى التالية أسماؤهم: الختيار (مراد)، يوسف، أحمد، سيلفيا، الزوجة، البنت، مراد الصغير، جمعة القفاري، كثير الغلبة، وداد، نعمان العمّاني، نانسي، عائشة، سلطان النوم، زرقاء اليمامة، بئر الأسرار، علاء الدين، سامبو، عبد الله الديناصور، زهرة، منقذ، آريا، ذبابة، عبد الرحيم، سعاد، فتحي البقّال. أتمنى أن لا أكون نسيت أحد.

أبدع مؤنس في خلق شخصياته، وتأطيرها حسب الفكرة التي يُريد أن يسلّط الضوء عليها من خلالها. بالأحرى، هو عالم نفس متمرّس؛ يُدخل في أصغر التفاصيل وأكثرها أهمية، ويجسدها لنا. إتقان مُطلق بالفعل، إذ عشقت شخصيّاته، أحببتها، صرت أتخيّلها في الناس أمامي، أقلدها أحياناً. لكني أحسست مؤنس ذكوريّاً بعض الشيء، إذا لم أحب الشخصيات الأنثويّة التي خلقها قدْر ما أحببت جمعة القفاري مثلاً! وهذه دعابة بالطبع.

 

لم يُبقِ الرزاز هزيمةً في جسد العربيّ إلا وتحدث عنها؛ خريف العمر، الإعاقة الفكريّة، الإقامة الجبريّة، الاغتيالات، السلطة والمثقف، والحاكم والمحكوم، انهيار الاشتراكية والإتحاد السوفييتي، تراجع القوميّة العربيّة، موت عبد الناصر، اليوميّ الممل المعاش في الوطن العربي، عمّان، الإحباط، الخوف، القلق، الكبت الجنسي، العشائرية القبلية، الانفصام في الشخصيّة العربية، وبعض التجليّات الفلسفيّة الأوسع في روايته: (زرقاء اليمامة وسلطان النوم).

 

“مؤنس كتب ما كتب لا ليسلّي القارئ، بل ليصدمه بواقع واقعيّ وخرافيّ في آن واحد، لا ليقول أن هذا الواقع محتوم، بل ليؤسس لإدراكه ونقده وتجاوزه نحو وعي تنويري إنساني ديمقراطي ونحو دولة العدل حيث القوانين والمؤسسات والوطن.”

 

اتّشحتْ تجربة الرزاز بالتجديد، إذ حملتْ روايته الجمالي الجديد والمبتكر، والفكريّ الجامد في آن، فزاوج بينهما بطريقة رائعة تجذب القارئ. بأسلوب الفلاش باك والفلاش فورورد زمانيّاَ ومكانيّاً. “ما من أحد أحبّ وأتقنَ المراوحة والمزاوجة بين أنماط مختلفة من السرد أكثر مما كان يحب ويتقن، ربما لأنه كان قادراً على إدراك السخرية العارمة أو الكوميديا السوداء أو الفلسفة العميقة التي يمكن أن تثوى في هذا الضرب من التنويع بين أنماط ومضامين السرد.”

 

يتّضح للقارئ لتجربة الرزاز، كمّ الفكر الهائل الذي ينطوي عليه عقل هذا الكاتب/المفكر بالفعل. والهمّ الجمعي الذي يحاول أن يبثّه في إعماله كلها.

 

“يقتضي الدخول إلى عالم مؤنس الرزاز الكثير كثيراً من الإضاءات التاريخيّة والاجتماعية والفلسفية، لا لأن هذا العالم الروائي يبدو فريداً بالمقارنة مع العوالم الروائيّة الأخرى، في الأردن والعالم العربي، وإنما لأنه ينطوي على توق استثنائي لمقاربة حقائق وأشياء كليّة عبر نظرة شموليّة”

 

يتحدث الدكتور عبد الخالق هنا، عن مقارنة ما بين الروائيين وكتاباتهم في الفترة التي عاصرها الرزاز وما قبلها، ويخصه بالحديث في الجزء الثاني من الكلام المنقول:
“إن استقراء موضوعيّاً لمُجمل السرد العربي قبل هزيمة حزيران (1967) يمكن أن يُحيل إلى محصّلة مؤدّاها أن هذا السرد قد اعتاش على (الرومانتيكيّة السياسية والاجتماعية) كما أنتجتها وأعادتْ إنتاجها الذات الفرديّة للسارد، فإن استقراء موضوعيّاً لمُجمل السرد العربي بعد (67) يمكن أن يُحيل إلى محصّلة مؤدّاها أن هذا السرد قد اعتاش على (النقدية السياسية والاجتماعية) كما أنتجتها وأعادت إنتاجها الذات الفرديّة للسارد. ومع أنني لا أقلّل من شأن الموهبة والتجربة الذاتيّة للسارد إلا أن ما أود تأكيده هنا، هو أن هناك من تصفّح أغلفة وعناوين والتقط مصطلحات متفرّقة ثم أعاد إنتاجها في (كولّاج) روائي وهم الأغلبيّة الذين استمرأوا الانزلاق على سطح المرحلة، وهناك من عانى فعلاً وقرأ كثيراً وبعمق ثم أعاد إنتاج ذلك كلّه في (خطاب روائي) وهم الأقلية الذين لم يدّخروا وِسعاً لتشخيص المرحلة تشخيصاً فكرياً رفيع المستوى من خلف قناع الراوي.”

 

في النهاية، أعتقد أنني لم أتحدّث كثيراً، فكتاب الدكتور قال ما أرغب في قوله، بل وأكثر. بعد هذه القراءات، أحسست شيئاً ناقصاً لدى الرزاز، لا أعلم ما هو. ربّما الفرح. وهذا ما يدعوني للتساؤل، وأنا المصدّق لكل ما يرى مؤنس، هل الفرح حقيقيّ؟

ملاحظتان:

1) لم تُبنَ هذه القراءة على أساس علمي، وإنما على قراءات شخصيّة، ونظرات من قارئ عادي.
2) كل الآراء المذكورة، كانت استناداً إلى ما قرأته للكاتب. وسأختم رحلتي مع أدب الأردني التي بدأتها به، مع روايتيه: أحياء في البحر الميّت و متاهة الأعراب.

أختم بهذه المخطوطة التي لم تُنشر، والتي قرأتها بخطّ يده، من خلال كتاب الدكتور عبد الخالق التي أرسلتها له الكاتبة سميحة خريس. وهناك بعض الكلمات التي كانت غير واضحة بسبب الخط:
“عمّان تدللني .. عمان الملاذ
15 / 7 / 1997

 

أشعر بعد كلّ ما جرى ومرّ بأسرتنا من زلازل وأعاصير تكاد تكسر تماس حدود الفنتازيا واللامعقول وتتخطّاها، إنني مستقرّ في عمان. وإن عمان ما بعد عودتي للإستقرار نهائيّاً فيها عام 1982 تدللني، تعاملني معاملة خاصة استثنائية، وتحتضنني كملاذ. كأنها تداوي جراحي وتمسح عليها. والحق أن هذا الشعور تعزز بعمق وأصبح حقيقةً واضحة بعد 1989 حين بدأ الإنفراج الديمقراطي النسبي، وترسّخ تماماً بعد أن أمر الملك بإرسالي إلى لندن لمعالجتي ضد الكآبة والإدمان عام 1994.

 

تذكروا يا أعزائي، وعموم عشائر الرزايزة أنني ابن رجل قيادي بعثي عارض النظام الأردني بلا هوادة حتى وفاته، وأنني انضممت إلى أجواء المعارضة فور عودتي إلى الأردن عام 1982 . وأنني لم أكتب كلمة مديح واحدة في زاويتي اليوميّة في صحيفة الدستور أو في صحيفة الرأي لامتداح النظام.

ومع ذلك كله، ها أنا أشغل موقع مستشار وزير الثقافة ومستشار مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، وأحسب نفسي على المعارضة، وأداوم كما أشاء دون ضغط أو سؤال. بعد تجربتي في عاصمتيّ الرفاق، عليّ أن أعترف أن عمان تدللني من موقع الوفاء. دون أن يعني ذلك أنني لا أوجّه نقداً مُرّاً (بعضه مكتوب في الصحف وبعضه أُلقي كلمات في ندوات) إلى سياسة البلد الخارجيّة ثم الداخليّة.

 

بعض أصدقائي من الثوريين الذين لم يعرفوا الآلام والجراح والمرارة والمِحن التي عرفناها في عاصمتيّ الرفاق، يعاتبونني حتى عندما أقول لهم أنني أتحدث عن الجانب الإنساني لعمّان لا الجانب السياسي. هم أحرار مع حبّي لهم، لكنني أملك من الجرأة الأدبيّة ما سيجعلني أعترف بأن التسامح الذي توافرَ لي (ولكثير من أمثالي) في عمان، ودون المطالبة بمقابل أو تسديد فواتير، ليس معهوداً في هذه المنطقة من العالم.”

 


عزيزة علي - كتاب يستذكرون صاحب “اعترافات كاتم صوت” بعد أحد عشر عاما من الرحيل تحت سماء جبال سبعة
الرزاز يحدق في زمن الانتكاسات العربية

عمان – الغد   ما الذي يحمله عقد ويزيد على رحيل الروائي مؤنس الرزاز. قبل أحد عشر عاما وتحديدا في الثامن من شباط (فبراير) 2002؛ غاب الرزاز، أحد أبرز الكتاب في الاردن منذ عقود طويلة، لمع اسمه محليا وعربيا في غضون سنوات، كان استهلها بروايته الشهيرة “أحياء في البحر الميت” إبان ثمانينيات القرن الماضي.
حدقت هذه الرواية في زمن الانتكاسات العربية. كان حديث أبطالها المرير عن رداءة الواقع العربي، محرضا للخروج من نفق الاستكانة للمرارة.

 

لو عاد الرزاز اليوم، ماذ الذي كان سيقوله لنا في زمن انشغل فيه العرب، بمكابدات الخروج على سائد كينونتهم القادم من عهود الاستبداد والاستعمار؟
ينتمي صاحب “اعترافات كاتم صوت”، الى عائلة عروبية، انخرطت في النضال السياسي القومي الوطني لعقود طويلة وشاقة؛ أمه لمعة بسيسو، كتبت قصائد قليلة في زوجها الطبيب المناضل منيف الرزاز، احد رموز حزب البعث العربي الاشتراكي، في مستهل تجلياته.

 

وكما لو أن القدر أراد لمؤنس ابن هذه العائلة الشامية، التي حفظت لجينات بلاد الشام عبورها الكامل للاقليمات والمناطقية،  في روح أبناء الرزاز القوميين، الذين شربوا عروبتهم من أب؛ كانت حياته مكرسة للعمل القومي والفكري، لم يرد لحياته ان تكون بعيدة عن نهج أبيه، لكن في سياق آخر.

كان هذا السياق .. الكتابة الابداعية؛ فبدأ الفتى الذي عاش في السلط وبغداد وبيروت وعمان، يذهب نحو الرواية كتابة وقراءة، بنهم نادر.

 

ولد الرزاز في مدينة السلط في خمسينيات القرن الماضي، ثم تنقل مع والده الذي كان منهمكا في العمل السياسي القومي في عدة بلدان عربية، ثم عاد الى الاردن، ليبدأ صعود نجمه كأحد الكتاب الروائيين الجدد الذين ينتمون لجيل الحداثة العربية.

كانت اصدارات الفتى المنهمك بتأمل زمنه، والمنخرط في معمعته.  أصدر كتابه النثري الأول في عام 1973 بعنوان تهكمي “مد اللسان الصغير في مواجهة العالم الكبير”، تلاه في العام 1976 بكتاب لم يفترق في تهكميته ومراراته عن سابقه  “البحر من ورائكم”، ثم كتابه “النمرود” في عام 1980، تلاه “أحياء في البحر الميت”، الذي شكل علامة مميزة في تجربته، قادته الى انتاج سلسلة روايات وكتب، ظلت تحافظ على روح الرزاز المتهكمة، المنشغلة بالهم العربي.

 

وضمن هذه السلسلة: “اعترافات كاتم صوت” 1986، “متاهة الأعراب في ناطحات السراب” 1986، “جمعة القفاري.. يوميات نكرة” 1990، “الذاكرة المستباحة وقبعتان ورأس واحد” 1991، “مذكرات ديناصور” 1994، “الشظايا والفسيفساء” 1994، “سلطان النوم وزرقاء اليمامة” 1996، “عصابة الوردة الدامية” في 1997، “حين تستيقظ الأحلام” 1997، “ليلة عسل” 2000.

 

وله في حقل الترجمة: “قاموس المسرح” من روائع الأدب الغربي 1982، “من روائع الأدب العالمي” 1980، “آدم ذات ظهيرة” (ترجمة – مشترك) 1989، “حب عاملة النحل” رواية الكسندر كولونتاي، “انتفاضة المشانق”.

 

وكتب للأطفال: “سلسلة كتب عن قصة سيف بن ذي يزن”، “قصتي مع الطبيعة”، كما نشر مقالات سياسية يومية في صحف أردنية وعربية عديدة منها صحيفتا الدستور في النصف الثاني من الثمانينيات والرأي في التسعينيات.

وبعدها شغل منصب رئيس رابطة الكتاب الأردنيين عامي 1993 و1994 قبل أن ينتقل للعمل مستشارا لوزير الثقافة.

 

نال الرزاز جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2000 في حقل الرواية، كما انتخب عام 1993 أميناً عاماً للحزب العربي الديمقراطي الأردني الذي نشأ بعد الانفراج الديمقراطي عام 1989 واستقال في أواخر عام 1999.

اليوم؛ وبعد مرور احد عشر عاما على رحيل الرزاز، يستذكره أصدقاؤه وأحباؤه من الكتاب، في لحظة لم تختلف كثيرا في حاجتها الى رزاز آخر، يتهكم من مراراتها وقتامتها ورداءتها.

 

الروائي والقاص هزاع البراري، قال “لم يكن الرزاز مجرد كاتب متميز، أو سياسي يزهو بكسله واحتجابه حسب؛ بل كان ظاهرة إبداعية وإنسانية مغايرة ومتفردة، تركت أثرها العميق في الساحة الثقافية العربية والمحلية، كان لها ارتداداتها على كتاب تواصلوا معه، وتأثروا به وبأسلوب حياته، وبنظرته الخاصة للحياة، وحرده المستمر من الواقع العربي المتردي، وجنوحه نحو الغرابة”.

 

كان الرزاز في عيني البراري “يجترح أشكالا مفاجئة من التعبير المناهض لحالة الاستسلام”.

وهو ما ذهب اليه البراري؛ مستذكرا تأسيسه لجمعيات شبه سرية وغريبة ومدهشة في فكرتها وغاياتها “وإن كانت لا تعدو عن أفكار تبقى بين الأصدقاء المنتمين إلى هذه الجمعيات ضمنياً، فلقد نادي بتأسيس جمعية التنابل خاصة بالكسالى، وجمعية الحردانين للمحتجين على الشكل الحالي للحياة، وعلى الواقع المثقل بالخذلان والتراجع، وهي أفكار روج لها واستقطب لها مؤيدين”.

 

في منطقة السياسة؛ قال البراري “فقد الرزاز ثقته بالأحزاب، بعد أن خاض تجارب في هذا المجال أورثته الألم والخذلان، فخاض انتخابات رابطة الكتاب في منتصف التسعينيات وأصبح رئيسها، وكان أول من يقدم استقالته منها قبل انتهاء فترة رئاسته، على خلفية حوار حاد حول التطبيع جرى بين المثقفين في الاردن، قبيل اتفاقيات السلام، وفضل أن ينأى بنفسه عن سيل التهم المتبادلة بين عدد من أعضاء الرابطة”.

على الطرف الآخر، يكشف صديق الرزاز ورفيقه في الكتابة الروائية إلياس فركوح ان هناك “مخطوطا لمؤنس عنوانه الاعترافات الجُوانيّة “لم ينشره الراحل”، وهو نص لا يكاد يخرج عن دهشة الرزاز الابدية واستغرابه وتهكمه على الواقع العربي.

 

وبين فركوح ان المخطوط قيد الحفظ والتأجيل “لم يُتخذ قرار نشره بعد”.

 

وعن علاقته بما كتب صديقه في هذا المخطوط قال “أعود إليه بين فترة وأخرى. أقرؤه أكثر من مرة، فهو ذو أهمية بالغة”، متمنياً تحويله إلى كتاب، فهو لن يكون مجرد كتاب آخر لمؤنس، إنه الى جانب كونه وثيقة أدبية لكاتبٍ كبير، فينبغي ألاّ يبقى في غرفة الانتظار”.

 

وأكد فركوح أن اعترافات مؤنس هذه “يشرع فيها بفتح بئر مليئة بالتفاصيل المتشابكة، لا بل بالنوازع الإنسانيّة المشتبكة مع بعضها بضراوة حربٍ لا هدنة فيها. لذا؛ فإنّ منحها ما تستحق من تدقيق وإفصاح مشروح ومشروع يملك معانيه، يتطّلبُ قدراً كبيراً من حِياد بارد لا أمتلكه حتّى الآن – حتّى لحظة التفكُّر في أوراق الاعترافات وتقليب تضميناتها”. وأكد فركوح ان “ذكرى الرزاز تستحق أكثر من محبّة مُعلنة، أو تقديرٍ عابر، أو توصيفٍ لشخصيته في بضع صفحات، أو تثمينٍ لكتابته بكلماتٍ تبذل ما في وسعها لأن تبدو باذخة وممنونة”.

 

من جانبه؛ قال الناقد د. إبراهيم خليل “فارقنا الرزاز تاركا خلفه ارثا ادبيا شاغرا، فهو من الكتاب الذين يتسمون بجاذبية خاصة، تمكنه من استقطاب الأصدقاء والمعجبين، ولم يكن بين الكتاب الأردنيين من لا تربطه به علاقة صداقة قوية، ومتينة، ولا أستثني من ذلك أولئك الذين كانوا يختلفون مع الاتجاه السياسي أو الفكري الذي يمثله”.

 

وأشار خليل الى اسهامات عائلة الرزاز في بناء شخصية مؤنس السياسية والثقافية، وتلك الظروف جعلت منه صاحب توجه قد لا يشاطره إياه كثيرون. والرزاز “صاحب شخصية عذبة إلى حد كبير”، بحسب خليل، فهو “على جديته التي تبلغ حد الصرامة، كثير الدعابة، والفكاهة، سريع النكتة”.

 

وبين ان هذه الروح لا تخلو منها كتاباته السياسية والأدبية، “ففي رواياته الكثير من المواقف الساخرة التي تحتاج لمن يتتبعها ويتناولها في بحث مثلما تناول بعضهم الفكاهة في روايات نجيب محفوظ”.

ونوه الى ان الرزاز كان لديه “شغف بالتجريب على الرغم من أن التجريب لا ينسجم مع الفكاهة، فمن يقارن بين روايتيه أحياء في البحر الميت ومتاهة الأعراب، يكاد لا يصدق أن من كتب الروايتين هو الكاتب ذاته”.

وبين خليل ان الرزاز كان منهمكا بلغة سردية متميزة، ففي متاهة الأعراب، مزج يكشف فيه الرزاز بين الجملة الكلاسيكية والمتداولة على نمط الأسلوب الصحفي، واستطاع التوفيق بين المستويين، وهذا موجود في روايته سلطان النوم، التي تختلف عن رواياته الأخرى بتمعنها في التخييل الغرائبي.

 

القاصة بسمة النسور قالت ان “الرزاز حالة ابداعية فائقة التميز، عصية على التكرار، ترك للمكتبة العربية إرثا روائيا متميزا، سيحفظ اسمه حيا في وجدان الاجيال القادمة، كما انه قدم انجازا مهما في الكتابة المسرحية والقصصية والترجمة”.

وأضافت النسور “كان لدى الرزاز تجارب في الفن التشكيلي اضافة الى إلمامه بالموسيقى وكان قارئا نهما لكل اشكال المعرفة”، مشيرة الى كتابات الرزاز في الشأن السياسي والفكري في زاويته الأكثر قراءة آنذاك في صحيفة الدستور.

وقالت “نحن ازاء مثقف وفنان شامل عز نظيره في المشهد الثقافي وبالتأكيد ترك فراغا اشك ان يملأه احد. على المستوى الانساني كان شخصية ساخرة بامتياز، نبيلا طيبا كما الاطفال، احيانا لا اظن ان احدا حاز اجماعا انسانيا مثله في مشهدنا المحلي، كان بالنسبة لي صديقا ومعلما سافتقده ما حييت”.

 

القاص مفلح العدوان، دعا الى اعادة قراءة المنتج الابداعي للرزاز بتأن “فهو ثري بكل تداعياته، وتفاصيله، شكل بالنسبة لي ولكثير من الكتاب مرجعا، وانموذجا في الكتابة، بخاصة في جرأته على التجريب، والحداثة”.

ولفت العدوان الى اننا في ذكرى الرزاز “نستعيده بإنجازه، بعد أن تجاوزنا مرحلة الرثاء والاحتفاء بالغياب.. هنا يكون استحضار المبدع والابداع؛ الرواية والراوي، بتنوع التجرية، وهو ليس بعيدا عن تفصيلات رواياته، التي تصدر عن فكر واحد، رغم تنوع سرديات تلك الروايات”.

 

“نعم هو مؤنس الحاضر”، بما انتج الآن، بما كتب، بتلك الروايات والقصص، وفق العدوان، “فكلما قرأته تكون هناك التفاتة الى جوانب كانت غائبة كل تلك السنين، وكأن جذوة الابداع الحقيقي، تبقى متقدة.. هذا حال ابداع مؤنس، وأثره الابداعي على كل من قرأه، فهو أسس لمدرسة من الكتابة هو رائدها.. فعليه السلام”.

2013 - جريدة الغد

 

عزيزة علي - مؤنس الرزاز: مثقف استثنائي ومبدع عاش حياة رواياته واختار مصير أبطاله

 

 

اليوم الذكرى التاسعة للرحيل المباغت لصاحب “متاهة الأعراب في ناطحات السراب”

عمان– يذهب كُتَّابٌ إلى أنَّ رحيل الروائي مؤنس الرزاز قبل تسعة أعوام، شكَّلَ “خسارة كبير للوسط الثقافي المحلي والعربي”، وأنَّ وفاته أوقفت مشروعه الأدبي في تحوله الجديد نحو كتابات الاعترافات غير المطروقة عربيا.

 

ويقرأ البعض وفاته على أنها نبوءة عاشتها إحدى شخصياته الروائية وهي جمعة القفاري الذي مات وحيدا، كما مؤنس.

 

وتوفي الرزاز في الثامن من شباط (فبراير) العام 2002 في مستشفى لوزميلا بعمان إثر أزمة صحية باغتته في منزله بجبل اللويبدة الذي شهد طفولته المبكرة، واحتضنه بعد عودته من المنافي المتعددة.

 

ولد الراحل في العام 1951، بمدينة السلط، ودرس في مدرسة المطران في عمان، وحصل على الثانوية العامة “التوجيهية” المصرية، ثم درس مستوى الـ(A level) في بريطانيا لمدة عام ونصف العام، قبل أنْ ينتقل إلى لبنان، حيثُ درس الفلسفة في جامعة بيروت لمدة ثلاثة أعوام، ليذهَبَ بعدها إلى جامعة بغداد، ويتخرَّجُ من جامعتها حاملاً شهادة ليسانس فلسفة، ثم ينضم إلى جامعة جورج تاون في واشنطن لاستكمال دراساته العليا، إلا أنه تركها بعد عام واحد في العام 1978 حيث التحق بأسرته التي انتقلت من عمان إلى بغداد في العام 1977.

 

ويستذكر صاحب المؤسسة العربية للنشر ماهر الكيالي أبرز محطات علاقته بالرزاز بدءا من كونهما أبناء جيل واحد ومدرسة واحدة، كما أنهما سكنا جبل اللويبدة، فضلا عن قرابة الدم، مضيفا إلى ذلك الرابط الأساس بصداقة قوية جمعتهما.

 

ويشيرُ الكيالي إلى العلاقة التي ربطت مؤسس المؤسسة العربية الراحل د.عبدالوهاب الكيالي الذي “رعى الرّزّاز منذ نعومة أظفاره، ونشر له أولى كتاباته وهي بعنوان (مد اللسان الصغير في وجه العالم الكبير)”، مؤكدا أنه بعد رحيل عبدالوهاب قامت المؤسسة بنشر أعمال الرّزّاز الكاملة بالاتفاق مع شقيقه د.عمر الرّزّاز.

 

ويجد الكيالي في الرزاز “صديقا حميما وحساسا وذكيا، وصاحب روح مرحة ورثها عن والده المفكر القومي الراحل منيف الرزاز”.

 

الباحث والكاتب الفلسطيني صقر أبو فخر، يوضح أنه تعرَّف إلى الرزاز في بيروت، والتقى معه مرات عديدة. ويقول: “بعدما غادَرَ الرزاز بيروت في العام 1982، افترقت خطواتنا وصرنا نلتقي مصادفة وخاصة عندما يأتي إلى العاصمة اللبنانية”، مبيِّنا أنَّ روايات الراحل كانت البديل عن اللقاءات المتباعدة.

 

ويعتقد أبو فخر أنه يعرف الرزاز معرفة جيدة، ويُدركُ جوانبَ من روحه القلقة، معتبرا إياه “روائي الوحشة والهلع”. ويؤكد أنَّ الراحلَ “عاش مثل مخلوقاته الروائية الذين تخضبوا بالمرارات والخيبات، فقد مات والده منيف مبكرا، كما مات هو مبكرا”.

 

ويذهب إلى أنَّ الرزاز، “طوقته المنافي”، منذ مغادته عمان إلى لندن ثمَّ بغداد فبيروت، مبيِّنا أنه كان يخشى دائما الوحدة والموت وحيدا. ويؤكد أبو صخر أنَّ حدس الراحل قد صدق “إذ مات وحيدا في منزله في أحد جبال عمان، مثل (جمعة القفاري) بطل إحدى رواياته”.

 

ويقول “إنَّ عالم الرزاز الروائي كان أبعد من المكان الضيق الذي يعيش فيه؛ فكان شاميا وهو من عائلة أصلها من حماة السورية، وعاش مثل والده منفيا وشقيا، فواجه الموت المبكر لوالده، ثم انخرط في السياسة بلا طائل، ثمَّ أمضى بقية أيامه في عمان التي جاءها في العام 1982، بعد مغادرته بيروت جراء الاجتياح الإسرائيلي، وراح يكتب باحتراق وألم وخيبة”.

 

عاش الرزاز، كما يذهب أبو فخر، مثل أبطاله “حيا ولكن في البحر الميت”، ومثل والده جرفته التجارب المرة. ويرى أنَّه لذلك حفلت رواياته بـ”الرعب والجنون والانفصام والهستيرية”، فأحبَّ عشرات النساء من “آنا كارنينا” إلى “نادية الجندي”.

 

ويحيلُ ولعَ الرزاز بنساء الروايات والأفلام إلى كونه عاشَ في منزل بلا نساء، لافتا إلى أنَّ روايات الراحل كانت “مترعة بالخوف”. ويوضح أنَّ رواية “أحياء في البحر الميت” تعد بمثابة “بوح بالاضطراب والقسوة والتشرد”. أما “اعترافات كاتم الصوت”، فهي وفق أبو صخر “علاج فيها أوجاعه بعد وضع والده في الإقامة الجبرية في العراق”.

وفي رواياته اللاحقة مثل “جمعة القفاري”، “مذكرات دينصور”، “وسلطان النوم”، فقد اتسمت بـ”كابوسية وحلمية وهذانية”، ذاهبا إلى أنها كانت “ذات بنية روائية متصدعة تماما مثل الرزاز، وأحوال العالم العربي آنذاك”. ويقول “في هذه الكآبة ترك الرزاز العنان لجسده ودهون شريانه ولمرض الربو يفتكون به، وهكذا رحل مؤنس حزينا نبيلا مبدعا وإنسانا بهيا”.

 

الروائية سميحة خريس تجد أنَّ غياب الرزّاز عن المشهد الثقافي الأردني “خسارة كبيرة للوسط الثقافي المحلي والعربي، وكذلك خسارة على المستوى الإنساني”، مؤكدة أنه “كلَّما مر وقت وزمن كل ما أيقنا بحضور الرزاز الإبداعي بيننا”.

 

وكشفت خريس أنها في الفترة الأخيرة اطلعت على جزء من الأوراق الرزاز التي لم تنشر، منها كتابات روائية كتبها في العام 1997، وبعضها عبارة عن مجموعة من الرسائل التي تبادلها مع والده ووالدته منذ كان في العاشرة من عمره، وكلها تكشف عن سيرة حياة مكتظة بالأحداث وتمثل المسار الفكري للشعب العربي في ذلك الوقت، مما يعني أن أوراق الرزاز تزيد مع الأيام أهمية خصوصا في المرحلة الراهنة التي تشهد استعدادا عربيا للتغير.

 

وترى أنه مع الزمن والوقت سيكون هناك فرصة لدراسة الأعمال الأدبية للرزاز، مؤكدة أنَّ تلك الكتابات ربما تكون من بين الكتابات العربية الأكثر تعبيرا عن الذات العربية المحكومة بقدر صعب.

 

وأشارت خريس إلى أنه رغم أن الساحة الأردنية ساحة لا تعترف بالتأثر بكتابات بعضنا البعض، إلا أن البحث الدقيق يكشف أن هناك جيلا من الشباب تأثر بأسلوب الرزاز الكتابي، خاصة في موضوع تشظيه الفكري وإبراز طريقة الحيرة في المعنى عنده، مبينة أن ذلك لم يجد الدراسة الوافية والذكية التي تلاحظ هذه الأشياء. على المستوى الإنساني، تجد خريس “أن الرزاز صديق لم يتكرر وإنسان دافئ يصعب أن يجود الزمن بمثله، رغم كل ما حولنا من صعوبات ومشاكل، أعتقد أننا كنا محظوظين لأن الرزاز كان في يوم من الأيام بيننا”.

 

وكان الراحل بدأ حياته العملية في الملحق الثقافي لجريدة الثورة العراقية في بغداد، ثم في مجلة شؤون فلسطينية في بيروت، ولدى استقراره بعمان في العام 1982 عمل في مجلة الأفق، وفي مكتبة أمانة العاصمة، وفي مؤسسة عبدالحميد شومان، وشرع يكتب عموداً يومياً في جريدة الدستور، ثم زاوية يومية في جريدة الرأي.

وعين الرزاز مستشاراً في وزارة الثقافة، ورئيساً لتحرير مجلة أفكار، وانتخب العام 1994 رئيساً لرابطة الكتاب الأردنيين، كما انتخب العام 1993 أميناً عاماً للحزب العربي الديمقراطي الأردني الذي نشأ بعد الانفراج الديمقراطي بالأردن في العام 1989 لكنه استقال من موقعه في أواخر العام 1994.

 

ونال جائزة الدولة التقديرية في الآداب للعام 2000، في حقل الرواية، ترجم له ايليان عبدالجليل إلى الإنجليزية رواية – Alive in the dead sea منشورات وزارة الثقافة 1997.

azezaa.ali.ali@alghad.jo

 

 

عمر الرزاز - مؤنس و الغزلان

 

حلمت.. حلمت أنني دخلت غرفة الجلوس، كان مؤنس في مقعده المعتاد، دنوت، عانقته ونحبت. قال إن الأطباء تمكنوا من إسعافه في آخر لحظة.. حمدت الله على رأفته بعائلتنا الصغيرة.. ثم استيقظت على بكاء ابني الرضيع .. مجرد حلم .. مجرد حلم يتكرر.

معلقٌ بين حلم موجع، ويقظة غير مرغوبة يعود ذهني نحو مؤنس.. فتنبثق عيناه.. أفتقد عينيه.

عينا مؤنس واسعتان، جاحظتان، رقيقتان.

لونهما من تراب الأرض الخصبة.

له عيون المها ويقظتها.

له شغفها بحرية مطلقة غير مقيدة.

له عيون المها في ترفعها.

له عيونها الحالمات.. التي ترى أبعد مما نرى، وتسمع ما لا نسمع.

له عيون المها التي ضاقت بها الأرض اذ انتشر الصيادون في كل مكان، وأتى الإسمنت والإسفلت على كل مراعيها الخضر.

له عيون المها الجاحظة، الرافضة ان تطأطئ الرأس أمام طغيان الإنسان.

ليس هذا بزمن المها.

ليس هذا بزمن الآفاق السحيقة والبراري الخضر، براري المها العربي انقلبت محمية، والمحمية صارت حظيرة، فإن تنقرض المها في الحظيرة ربما رحمة .. رحمة بالمها.

في زمن الإسمنت والبارود.. كل المها آيلة الى الانقراض، لنحمِ المها المتبقية.. ولنحمِ ذاكرة من قضوا.. علّ جيلا من المها يعود ليقتلع الإسمنت والأسلاك الشائكة.. يدفن البارود في باطن الأرض ويفرش وجهها بالحنون والزعتر.. وتعود عيون المها بشغفها للحرية والحياة، وتنتشر بالأرض.

 

* عمر الرزاز

شقيق الروائي الراحل مؤنس الرزاز

http://www.alghad.com/index.php?news=482968

 

 

 

 

شاكر فريد حسن

 

يعتبر مؤنس الرزاز من أبرز أعلام القصة والرواية والثقافة الأردنية المعاصرة، الذين احتلوا مقدمة المشهد الروائي الأردني. انطلق بقوة في عالم الكتابة والابداع الثقافي منذ منتصف الثمانينات ، وأمتاز بالجرأة والحيوية وغزارة الانتاج، ووصلت مجموع أعماله الى أكثر من 15 عملاً روائياً ، أبرزها:” الشظايا والفسيفساء، متاهة الاعراب، اعترافات كاتم الصوت، أحياء البحر الميّت، ليلة عسل” وغيرها.

 

خرج مؤنس الرزاز من بطن أمه سنة 1915 وغادر الحياة الى مرقده الأبدي في العام 2002، وبغيابه خسر القص العربي أحد فرسانه الكبار الذين ردموا الهوة بين الحكاية والحياة.

 

ينتمي مؤنس الرزاز الى جيل الأحلام والخيبات الكبيرة ، وابداعاته القصصية والروائية خير شاهد على تردي الوضع العربي العام، وقد استعان بالسخرية العميقة وأسلوب المحاكاة في كشف وتعرية عوامل الانهيار في الواقع العربي المهزوم والمأزوم، وأسباب التخلف والوهن المترسبة من حقبة الرجل المريض، فحكى لنا قصة الوطن العربي والانسان العربي، قصة أحلامه وطموحاته، وصوّر الهزائم والانتكاسات والخيبات المتتالية التي حلت بالعرب في الربع الأخير من القرن العشرين الماضي، وخرج عن المألوف في عالم الرواية وأغناها، هندسة ومضموناً، وهو حاذق وماهر في تسيير شخصياته باثارة وتشويق.

 

مؤنس الرزاز كاتب مؤدلج، لم يكتب أدباً متحيزاً للصنعة الأدبية والشكل الجمالي، وأنما زجّ بفكره وموقعه السياسي والأيديولوجي بشكل صريح وواضح، وتشرّب النزعتين القومية والانسانية من والده المفكر العربي والمناضل الراحل منيف الرزاز . أعتمد أسلوب الرؤية كوسيلة للوصول الى مبتغاه السياسي والاجتماعي، وفي جميع ما كتب عبّر عن وجهات نظره السياسية والفكرية والفلسفية ، ونبش الجرح، وامن بأن الكاتب يجب أن يكون ثورياً، تقدمياً، ليبرالياً، استفزازياً، رافضاً ومعرياً الواقع ومشاركاً في تغييره.

 

مؤنس الرزاز مثقف القلق والتوتر، ومثقف الأسئلة الواقف في وجه التيار، ولج مناطق العتمة والجدل في ثقافتنا العربية وشكّل حلقة مستقلة واعية وظاهرة في صدقها وأصالتها وتغلغلها في التراث الانساني، وهو أحد الأصوات القوية والمتمردة القابضة على الجمر في زمن القفز عن المراكب بحثاً عن أطواق النجاة وشواطئ الأمان.

 

صفوة القول، مؤنس الرزاز مبدع حقيقي، راحل أبداً ومتطلع الى الحرية، سعى دائماً الى هياكل الفن والابداع الحقيقي ومعابد الجمال، وعرف تماماً الواقع العربي الثقافي والفكري، وقد أضاء الفضاء الابداعي الأردني والعربي ثم أنطفأ سريعاً، لكنه بقي في الذاكرة والتاريخ الثقافي بأرثه الأدبي الانساني المتميز، بعناده وصلابة مواقفه.  

 

http://www.tellskuf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=6078:2010-10-07-10-28-27&catid=77:shk&Itemid=45

 

 

مهند سعد - مؤنس الرزّاز يذوب في شخصيّاته الروائية
 

 

يربط العراقيون رأسه بحبل ويشدّونه إلى رافعة، يتداعى قليلاً، ثم يسقط وسط صخب الشعب.

 

ما زالت تثيرني هذه التماثيل! إلى أين يريد أن يصل صانعوها؟ ما الذي كان يطمح له هذا الرجل؟ بشاربه الكثّ وشعره المفروق باتجاه اليمين وغرّته الكثيفة ويده الممدودة نحو الأعلى؟.

 

ما زلت أذكر الإنتاج الكرتوني المسمى “عدنان ولينا”، ما زلت أذكر شخصية “الدكتور رامي” وأربطها بصدام حسين! هل أراد منتجو العمل دفعي لذلك وأنا صغير؟ لماذا كنت أعتقد أنه مخلّص البشرية بالفعل من القوى الاستبدادية والاستعمارية التي تريد السيطرة على العالم من خلال سلب الشعوب إرادتها وتسخير طاقاتها لمشروعها الاستعماري.

 

في العدد 301 من مجلة أفكار الأردنية في مقال للكاتب العراقي ماجد السامرائي يتحدث فيه عن علاقته بمنيف الرزاز وكيف كشف خيطًا مهمًا جدا قامت عليه رواية (اعترافات كاتم صوت)التي كتبها ابنه مؤنس الرزاز، والأخص سؤال أثارنا كثيراً”من هو الختيار؟”، حين تحدث هذا الكاتب مع منيف الرزاز عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي في بغداد يسأله فيها عن كتابه “فلسفة الحركة القومية العربية” فرد باعتذار قائلا: ” لا ماجد، هناك قضايا أهم.. أنا شايف أن هناك انحرافاً في فكر الحزب، وعليّ أن أقوّم هذا الإنحراف”.

 

وبعد اعتراضاته على تصرفات صدام حسين مع العديد من قيادات الحزب أمر صدام باحتجاز منيف الرزاز ووضعه تحت الإقامة الجبرية والمراقبة المباشرة.

الختيار، بعد أن كان من أهم قيادات حزبه، يثيره هذا الانحراف لمبادئ الحزب، مما يضعه في الإقامة الجبرية مع زوجته وابنته، يقتلعه الحزب شيئاً فشيئاً من ذاكرة الشعب، ولكنه يصرّ على الحياة من خلال كتاباته التي يصادرها الحزب عندما يضع قلمه على الطاولة، كتاباته التي لن يقرأها أحد.

 

الختيار الذي يعلم أيّ حربٍ نفسية يخوضها الحزب معه من خلف جدران الإقامة الجبرية، ويبقى صامدًا، يكسرهُ ضياع ابنه وموته في النهاية، هذا الكسر الذي أراد منيف أن لا يصل له عندما كان يشدد على ضرورة تقوية ابنه مؤنس ومعاملته كأي صبي وليس كإبن مسؤول رفيع في الحزب.

 

تحمل ابنته بعد وفاة والدها ووالدتها عنصر الخوف وعنصر الخشية من كل شيء، عندما يخرجونها من الإقامة الجبرية تشعر أن الجميع يقرأ أفكارها وكأن دماغها من الخلف مفتوح للجميع، هذا الخوف والخشية والترقّب يحملهما مؤنس الرزاز في شخصيته الذاتية ويطلقهما في شخصية “جمعة القفاري”.

 

لننتقل هنا لتداعيات هذا الأمر على مؤنس الرزاز وصناعته لشخصية جمعة القفاري ” دون الكياشطة” وهي شخصية ضعيفة مهزوزة لا تقوى على فعل شيء ولا تعلم ما هو سعر علبة السمنة في المحلات، شخصية فقدت بوصلتها في مدينة عمان وبدأت ترسم صورة متخيلة لدون كيشوت الأردني الضاربه أصوله في عمق البداوة الأردنية والزاهدة المثقفة المتصوّفة والتي لا يكسرها شيء، هذان التردد والإنهزام اللذان صبّهما مؤنس من روحه إلى جمعة القفاري ليبقى ذلك الشخص المهزوز والمتردد.

 

وبين “الختيار” و “جمعة” يكمن السؤال المهم، أي تلك الشخصيات هي التي شعر مؤنس معها بأنه يضع عن كاهله زمنًا كاملًا من الألم والوجع والتعب؟ هل هو شخصية القوي المتمرد الذي لا تلين له قناة، أم شخصية الضعيف الخانع الذي يجد أنه هو سبب البلايا في هذا الكون ويجب أن يتحمل كل شيء على حساب نفسه؟.

 

انكتاب     3 – 7 – 2014