الحياة وقصتها

خريف العمر، غضون الحياة صرخة الميلاد بعد اليوم الثالث من مذكرة جلبي إلى هذا العالم. جبل اللويبدة شيخ مسنّ متهالك يلهث. يمشي محدودب الظهر، والريح تعبث بمعطفه الثقيل القديم. معطف كان عريقاً أرستقراطياً فصار عتيقاً شاحباً قد انتفخت الجيوب تحت عينيه. لم يشرب الدهر عليه ويأكل فحسب، بل ودخن أرجيلة ما بعد الأكل ورقد بكل ثقله عليه عند القيلولة.
 

يا إلهي، أنظر إلى المرآة فأرى جبل اللويبدة يحدق فِيّ بعشرات العيون. في حارتنا شيوخ وعجائز نبتوا في الجبل مع أشجار السرد، لكن أسراب أبنائهم هاجرت إلى غرب الجبل حيث اختلطت القطط السمان بأثرياء وتجار الحروب والسماسرة وعائلات نزفت عرقاً تحت شمس الخليج وعائلات ورثت أراضي في مواقع حساسة فباعت وأقامت قصوراً فخمة وسيارات شبح.  

 جبل اللويبدة مركز محيط دائرة حياتي المفرغة… ثمة عائلات من عمان الشرقية حسّنت أوضاعها المادية فانتقلت إلى جبل اللويبدة. ملامح الجبل تتغير، تفذ الخطوَ مع خطواتي نحو شيخوخة مبكرة وهبوط طبقي واضح. كيف ارتبط مصيري بمصيرك أيها الجبل المكدود؟ *** سوف أغادر معمعان القتال بعد أن خسرت كل معاركي وربحت حربي، فأعتزل الدنيا والناس وأقضي ما تبقى من حياتي مع أبطال الروايات وبطلات القصص، سأقطع خط الهاتف، وأعطب جرس الباب، فاعذروني. أعتذر من البشرية كلها عن وجودي، عن إشغالي حيز قدمين على هذه الكرة الأرضية، أعتذر عن كميات الهواء التي تنشقتها، فقد كان غيري من أصحاب مرض الربو أو سرطان الرئة أَوْلى بها والله أعلم. أعتذر عن اقتناصي فرصة غيري في احتلال موقع موظف ذي راتب شهري يكفي لإقامة الأود، كان ينبغي أن أتبرع برواتبي كلها للبشرية، لكنني لم أعثر على بنك للبشرية، وأنا لا أثق بالبنك الدولي (مرّق لي إياها يا أخي الحبيب عمر، فقد مرّقتَ لي كبائري كلها، وقبّلتني كما أنا بكل خطاياي وجنوني، أقصد عدم سويتي).  

انتهت قصة حياتي، على أن حياتي لم تنته بعد. انتهت قصة حياتي، على أن عمري لم ينته بعد. جعفر الطيار انتهت حياته قبل أن تنتهي قصة حياته، هل تفهمونني، أعني أن قصة حياة جعفر الطيار انتهت على نهاية حياته، كذلك غيفارا. لكن قصة حياتي أنا انتهت ولم تنته حياتي بعد، مثل خروتشوف. فقد قرر ذات يوم كل من كوسيجين وبريجينيف ورفيق ثالث نسيت اسمه إنهاء قصة حياة خروتشوف في منتصفها وإحالته على التقاعد وهو في عز عطائه، وأخفوه في بيت ناءٍ حيث قضى بقية حياته في العزلة بلا قصة حياة. نعم، هكذا انتهت حياة الرجل الذي ضرب طاولة الأمم المتحدة بحذائه، وتنبأ بانهيار الامبراطورية الرأسمالية الامبريالية في التسعينيات من القرن العشرين، فانهارت الامبراطورية التي كان هو واحداً من الذين ساهموا في بنائها! إذن، انتهت قصة حياتي وقد اجتزتُ ثلثي عمري فقط. انتهت بعد معارك ضاربة هزمت فيها كلها، لكنني انتصرت في الحرب. انتهت قصة حياتي عام 1994 حين ربحت الحرب بعد ما خسرت المعارك وخرجت من الميدان مثخناً مظفراً، فكتبت ثلاث روايات، ثم تبينت موتي الأدبي المعنوي مع مطالع 1998. لن أنتظر الموت يقرر لخطة مصادرة عمري. هذا ترف لن أمنحه للموت. لقد قرّ قراري على ممارسة هذا الترف بنفسي. وبما أنني لن أضع حداً لحياتي العضوية (الأكل والشرب والنوم واستخدام بيت الراحة أو الحمّام والقيام بوظيفة الدوام في وظيفة)، وبكلمة أخرى أقول: وبما أنني لن أنتحر بات، إذن، من حقي أن أختار لحظة موتي المعنوي والأدبي، ثم الاسترخاء على كنبة وثيرة كما يسترخي المتقاعد، وألعب وألهو مع أصدقائي مثل الإخوة كرامازوف مثلاً، أو أغازل نساء حميمات مثل الليدي تشاترلي أو مدام بوفاري أو أنا كارنينا. نعم، هذا ما سأنهمك به إبان انتظاري للفرج النهائي الذي يختار الموت العضوي ساعته بالنيابة عني. إذن، حطمتُ اليوم قيدَ الحياة، نعم هذا اليوم بالذات، أي حين انتهت قصة حياتي مع أن حياتي لم تنته بعد (لا أكتمكم أن الحياة بلا قصة حياة مثير للضجر). 

البلاغ رقم واحد انقلبت على عقلي، انتزعت رأسي كما ينتزع المرء قبعة، ثم رميت بعقلي في سلة المهملات، فتحت جمجمتي كما يفتح أحدكم خابية، واستخرجت دماغي المرضوض وألقيت به في السلة. زرعت في رأسي خواء وهواء وهباء، ألا تسمعون الريح تطلق صفيرها وهي تهوي في جمجمتي المجللة بشعري الجعدي؟ نعم، أنا طلبت أن أتهوّى، أردت أن أهوّي دماغي، أقصد رأسي، ليدخل الهواء إلى رأسي المحصن كقلعة، ولتفتح هذه القلعة بواباتها الثقيلة العريضة لأشعة الشمس. لا، لن أعيد قصّ قصة حياتي عليكم، إعادة قصّ قصة انتهت واستُعملت واستُنفدت طزاجتها.. قصة مثيرة للضجر، وقد أختصرها للفضوليين بأنها حياة افتُتحت بمشروع شهيد وسط أجواء حماسية هادرة، وانتهت إلى عدمية لا يبالي صاحبها بكشّ ذبابة عن أنفه، حتى قيل إنه أسس حزباً للتنابل ذي شعارات لافتة: كسل، تثاؤب، تمطٍّ، وقيل إنه أضاف طز أو يصطفلوا أو حط بالخرج… والله أعلم. فصوص الحكم أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، لكم حياتكم ولي حياتي.. عفواً، أقصد لكم أعماركم ولي عمري، فقد انتهت قصة حياتي كما قلت، ولم يبق معي في وحشتي وعزلتي واعتكافي سوى كميات كبيرة من العمر النيئ غير المستوي! لقد رحلت إلى مهب الجنون، لم أعثر في رأسي المخلوع إلا على خيال.. ثلاثة أرباع دماغي كان خيالاً! تصوروا؟! أقصد دماغي الذي رميته في سلة المهملات مع خوذتي ودرعي بعد أن انتهت قصة حياتي ولم تنته حياتي.  عشقت مرة، كان شَعر حبيبتي الليلي يقاطع ثرثرة النهار بلا لياقة، بياض النهار يسهب وشَعر حبيبتي الأسود المسترسل يقطع عليه الكلام، شَعر حبيبتي المظلم مثل قاطع طرق أو قرصان.

 

– تقمصت الخريف، قميصي يابس أصفر شاحب، كأنه سوف يسقط مع سقوط أوراق شجرة عائلتي. ماذا أتقمص إذا سقط قميصي في هذا الخريف الأبدي الأخير؟
من يومياتي الساعة التاسعة صباحاً.. أمشط شَعر خطاياي، أزين إثمي، وأرمق صورة أبي الروحي بنظرات شزراء، لماذا يا أستاذ؟ لماذا فعلت هذا؟ ليتك متَّ قبل هذا فكنت وكنا نسياً منسياً!  أورث عمري لكم، كل ما تعلمته منذ كانت أظافري ناعمة.. خذوه.. ودعوا لي غرائزي طازجة عذراء مشعثة الشعر، ثوبها ممزق والحذاء بلا كعب، اتركوا لي غرائزي لي كما ولدت، وخذوا معرفتي وبأسي وثروتي.