النمرود

المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،1980

تجمع العشرات من  أقارب ” النمرود ” و جماعته و أصحابه أمام باب السجن ينتظرون بزوغ وجهه حرا من سنوات الاعتقال الطويلة.

تحت شمس جهنمية وقفوا لا يحفلون بتجفيف عرقهم النازف من جباههم أو الدموع الطافرة من عيونهم.

همست أمه العجوز في أذن زوجها المهدوم و هي لا تحول بصرها عن بوابة السجن:

ـ أحضرت له معي نظارة سوداء، كي تخفي دمعه إن انفعل فبكى.

قال أبوه بصوت متهافت:

ـ النمرود لا يبكي..اللعنة لماذا لم يفرجوا عنه حتى الآن؟

قالت زوجته تمد رقبتها تتعجل إطلالته:

ـ لكنه إنسان.

قال أبوه بعناد:

ـ النمرود لا يبكي.

و مسح العجوز بقفا يده دموعه التي غالبها فغلبته و كرر:

ـ لن يبكي، خصوصا أمام الحرس.

و التفت أحد أصدقائه إلى ابن عمه و قال:

ـ أراهن أنه لن يتمالك أن يجهش حين يقع بصره على أمه.

رد ابن عمه و هو يقتعد الأرض ضجرا:

ـ أراهنك بعشر ليرات أنك لن تلمح دمعة في عينيه إلا حين يبصر زوجته.

ـ أراهن على أمه.

ـ أراهن على زوجته.

ـ ماشي الرهان.

تقدم قزم يبتسم بسمة تتميز بالبلاهة و قال بصوت ناحل:

ـ لا أوافقكما، الدموع لا تعرف إلى عيني النمرود سبيلا لكنه قد يفجع حين يكتشف أن رجال الشرطة  صادروا حصانه منذ عام.

قال ابن العم بلهجة لا تخلو من نزق:

ـ نحن نتكلم على الانفعال يا أحمق.

قال القزم و هو ينظر في الأرض:

ـ النمرود لا يبكي، أنا أخبر الناس به.

و في ركن آخر من الساحة الممتدة أمام المعتقل، لم يخف أحدهم ارتيابه و قلقه لإطلاق النمرود. قال متأففا:

ـ صحيح أنه قبضاي وشهم، لكنه متهور و عنيد أيضا و قد تكون عودته إلى البلدة فاتحة مصائب نحن في غنى عنها.

نكت الآخرون التراب بأظافرهم، و التزموا الصمت بينما دارت عيونهم قلقة و دار حولها الذباب. همس أحدهم بصوت متهافت:

ـ يقولون أنه متخلف عقليا، لكنه قوي كثور.

توسطت الشمس السماء، و كر حرها ينهب الأعصاب سكينتها و يغزو الحناجر.

تعالت الهمهمات من هنا و هناك ثم استحالت إلى صرخات مدوية:

ـ أين النمرود، أفرجوا عن النمرود.

و تململ حرس بوابة السجن، ثم شهروا أسلحتهم.

و فجأة انشقت بوابة السجن عن ضابط أسمر وسيم ذي شارب أنيق. وقف أمام الجمهور الصغير و هتف:

ـ أين زوجة النمرود؟

فز أبو النمرود مغضبا:

ـ و ما شأنك أنت؟

سأله الضابط:

أ أنت والده؟

رد العجوز مباهيا:

ـ نعم.

مسح الضابط الشاب شاربه الأنيق بأصابع غليظة ثم قال:

ـ حسنا، تفضل معي لحظة لو سمحت.

و تعالت الهمهمات و تطايرت الشتائم و ضجت الحيرة في العيون.

اجتاز العجوز  دهاليز المعتقل بخطوات وئيدة تسانده ذراع الضابط ثم انتقل الضابط فجأة فإذا  العجوز واقف إزاء ولده ” النمرود ” وجها لوجه، ومضت في عيني العجوز دمعة سرعان ما انسكبت و هو يأخذ ولده بين ذراعيه.

من خلفهما جاء  صوت الضابط:

ـ النمرود يا حاج لا يريد أن يترك الزنزانة.

اتسعت عينا الأب عجبا و قال بصوت ملهوج:

ـ غير معقول.

ثم قبض على ذراع النمرود القوية و سأله دهشا:

ـ قل إنه يكذب، قل.

لم تهتز عضلة واحدة في جسد النمرود. رنا إلى أبيه بعينين اتقد فيهما وميض عجب و قال بصوت عميق:

ـ إنه الجدار.

سأله أبوه لا يفهم:

ـ الجدار؟

قال النمرود و هو يتحسس أحد جدران الزنزانة بيديه:

ـ كتبت عليه بعيدان الثقاب مذكراتي و قصائدي و شتائمي.

قال الأب ملتاعا:

ـ لكنهم ينتظرون.

ـ أريد أن أصحب الجدار.

ـ زوجتك و أمك.

ـ الجدار لي، يريدون مصادرة ذاكرتي و كلماتي.

تدخل الضابط قائلا:

ـ قلت لك إننا سننقل كل كلمة كتبتها على ورقة و نزودك إياها في أقرب وقت.

ضرب النمرود أرض الزنزانة بقدمه الثقيلة و صرخ:

ـ أريد الأصل، لا نقل و لا نسخ.

نفخ الضابط و هو يقول:

ـ أتريدنا أن نهدم جدار السجن؟

هاج النمرود و صاح:

ـ أنتم من زج بي في هذه الزنزانة، أنتم المسؤولون، أريد قصائدي بخط يدي.

قال الأب يتوسل:

ـ أمك و زوجتك.

شبك النمرود ذراعيه و وقف وقفة من عقد العزم أن لا يتنازل.

تقدم إليه الضابط و ربت  كتفه و قال بصوت رقيق:

ـ حسن، حسن، سنقتلع الجدار و نرسله إلى بلدتك في أسبوع. أما الآن فعليك مغادرة السجن و مقابلة أحبائك.

عادت عينا العجوز تتسعان و سأل الضابط:

ـ أ تتعهد له ذلك فعلا؟

غمز الضابط العجوز بمكر و قال يصطنع الصدق:

ـ أقسم.

فهم الشيخ العجوز كل شيء. هز رأسه حسرة ثم أخذ ولده المتردد من ذراعه و هو يتمتم:

ـ حلت المشكلة، تعال الآن يا ولدي، تعال.

و بينما هجم عليه أهله و أصحابه يقبلونه و يراقبون باهتمام و فضول متى ستهبط أول دمعة من عيني هذا العملاق الأسطورة، جعل هو يعانق الناس و ينظر إليهم بعينين ثابتتين و بسمة حالمة تنتحل شفتيه.

علق والده مفاخرا:

ـ أ لم أقل لكم إنه عصي على الدمع أن يتأبى الضعف.

و في باحة الدار حيث اجتمع  عشرات المهنئين و الأصحاب و أولاد العشيرة، و بينما انطلقت الزغاريد ابتهاجا و الأغاني احتفالا بحرية النمرود، وقف هو شامخا كجواد أصيل و همس في أذن أمه و هو يراقب أصابعه ترتعش لأول مرة أنه سيدخل الدار ليغتسل.

و ولج الدار و انفتل صوب الحمام. دخل و أقفل الباب من ورائه بعناية. ثم انهار ساجدا ضاربا رأسه بالجدار. غطى وجهه بكفيه، و استسلم لبكاء طويل. و حين استبطأته أمه و زوجته جاءتا الدار و قرعتا باب الحمام.

خرج النمرود شامخا يبتسم بكبرياء وثقة، غاسلا وجهه و عينيه. و حين لمحت  أمه بحدسها دمعة في طرف عينيه، اجتاحهما فرح طفولي و قالت لنفسها:” كان يبكي من شوقه إلي.”

و قالت زوجته لنفسها مبتهجة حين لاحظت ذلك الأثر الذاوي للدمعة الراحلة: “أخيرا ذرف لي دمعة”.

و حين خرج للناس عاد الهتاف و التصفيق و لكز الأب العجوز أبناء عمه في ثقة و زهو و قال بصوت متحشرج:

ـ أ لم أقل لكم إن النمرود عصي على الدمع؟ انظروا شموخه.

و قال أحد الجلوس لقريبه:

ـ خسرنا الرهان لم تنسكب من عينيه دمعة.

و كمحارب لا يعرف  هدنة و لا يطأطئ لعاصفة، اتخذ النمرود مجلسه بين أحبائه، و ملأ رئتيه بالهواء المنعش، و تنهد.