“ما هي عناصر التجديد التي أضفاها أو أضافها مؤنس إلى الكتابة العربية؟ من يقرأ كاتبنا للمرة ألأولى يدهشه دون شك هذا المدى الرحب من الرؤية الإنسانية، هذا الشمول الذي يحتضن الثقافة العربية منذ شعرها الجاهلي وما قبله، وحتى آخر تجليات الحداثة فيها شعراً ونثراً، وذلك بالقدر نفسه الذي يحتضن به الثقافة الإنسانية من شتى أقطارها.”
مرة أخرى يسعدني أن أنضم إلى هذا الجمع العزيز، جمع رابطة الكتاب الأردنيين، ومرة أخرى يشرفني أن أجتمع بكم في ملتقى السرد حول قامة كبيرة من صناع أدبنا العربي الحديث، الروائي والمبدع الأردني مؤنس الرزاز، القلم المميز والرؤية النبوءة، أقول ذلك وأنا في أول زيارة لي خارج مصر بعد ثورة يناير، منها أن إبداع المثقفين الحقيقيين قد قاد خطى في هذه الثورة الإنقاذ. بالأمس اجتمعنا حول إبداع الصديق الراحل غالب هلسا، الذي نعده في مصر واحداً منا، أسهم في بلورة حركة التجديد والتقدم في الأدب المصري الحديث فضلاً عن دوره الرائد في الأدب الأردني، واليوم نحتفي بأدب مؤنس الرزاز الذي أراه بدوره رائداً كبيراً ومبشراً بأفضل عناصر التجديد في ثقافتنا العربية في المضمون والصياغة، وهما –عنده- كل لا يتجزأ.
ما هي عناصر التجديد التي أضفاها أو أضافها مؤنس إلى الكتابة العربية؟ من يقرأ كاتبنا للمرة ألأولى يدهشه دون شك هذا المدى الرحب من الرؤية الإنسانية، هذا الشمول الذي يحتضن الثقافة العربية منذ شعرها الجاهلي وما قبله، وحتى آخر تجليات الحداثة فيها شعراً ونثراً، وذلك بالقدر نفسه الذي يحتضن به الثقافة الإنسانية من شتى أقطارها. وعند مؤنس فإن تعداد ألف ليلة وبغداد القرن العشرين، وبيروت الروشة والشياج، وعمان الغربية وحاضرها الملتبس تأتلف كلها لتصنيع مكاناً واحداً وزماناً واحداً هو عالم مؤنس الرزاز الخاص الذي تشكل ملامحه، أو الذي ينبثق بالأحرى مكتملاً من لغة ابتدعها واشتقها مبلورة وصافية من فرائد لغة الأجداد والأحفاد البمذولة له ليغني بها ملامحها الماساوية وملاهيا الساخرة على السوار، كأنما تأتيه عفواً وهو ينام ملء جفونه عن شواردها.
هو يقول مثلاً في متاهة الأعراب في ناطحات السراب “ليل يورق أرقاً. أرق أبيض أرق، وظلال تنحدر كموج من خصل وحشة بائدة، ظلال في ظلام من اللظى. تتثنى كأنما تقفو أثراً تطارده كإيقاع قصيدة لا مرئي القيس. إيقاع يقرع الذاكرةن ويأتي صافياً عارياً من المفردات”.
هو هنا كأنما يصف لغته هو نفسه، ذلك النثر الصافي الذي ينساب رائقاً ومُجوسقاً دون تكلف ولا عناء، يرفده تذوق رفيع لجماليات هذه اللغة ومقدرة فطرية على التعبير بها. وتعكس هذه الرواية الملحمية عمق إحساس مؤنس بمفردات التراث العربي والقدرة على تطويعه من صعاليك عروة بن الورد، إلى بلقيس، وشهرزاد ألف ليلةن إلى أبطال أهل الكهف الذين لبثوا يوماً أو بعض يوم هو دهر بأكمله يتجاوز عنده العصور والمكان، أو من جلجامسن إلى فريد شوقي، إلى أحمد بن بيلا والمهدي بن بركة الذين جمع بينهما، رغم أنف التاريخ، وإلى جانب غرب وأغراب لأحضر لها يتسلل العالم الخارجي ليفرض وجوده، فهناك كريستوفر كولومبوس وكارل جوستاف يونج وبيرجسون وعشرات الشخصيات الأخرى التي جلبها مؤنس الرزاز من الغرب إلى الشرق في هذه الملحمة.
قرأت في حياتي كثيرين من الكتاب حاولوا ما يسمى بإحياء التراث، وذلك غالباً لتسليط ضوء على الماضي بغية الإسقاط على الحاضر ولإظهار التشابة، ولكن عند كاتبنا لا يتعلق الأمر بهذا الإحياء ولا بعملية إسقاط من أي فرع، بل يصبح التراث والحاضر شيئاً واحداً، لا يتمثل الماضي في عملية تراكم بل في حياة مكتملة، إن تكن بعض ملامحها غائبة عن العيان، فهي كامنة في الأعماق. ألا تخاطب إحدى الشخصيات في الرواية بطلها قائلة: “أنت مثل هذه العمارة ما يظهر منها معاصر لكن تحت السطح طوابق آن لسية وعباسية.. حتى نصل إلى طوابق أهل الكهف والإنسان الأول البهائي؟ أبطال كاتبنا والكاتب نفسه، إذن يعيشون هذه اللحظة الكونية الممتدة، لا تفريق فيها بين ماضي وحاضر –فهو وهم يعيشون حياة البدائي في الغابة والإنسان المعاصر في الطائرة في وقت واحد.
وفي رأيي أن تعامل مؤنس الرزاز مع التراث وعرض موصولاً بالحاضر، لا إسقاطاً عليه تميل إسهاماً مهماً جديراً بأن يحتذى من كل على طريقته بطبيعة الحال.
وهذا التعامل أو هذه الرؤية مرتبطة أوثق الارتباط بالموضوع الأساس في أدب كاتبنا وهو التمرد والثورة، أو الانعتاق والحرية. فهذه اللحظة الكونية التي تمتج في رواياته محتشدة بتاريخ من القهر والقمع والمطاردة. تجسد هذا التاريخ على نحو أبشع من تفاصيل التعذيب الوحشي، تلك العبارة التي يقتبسها من الحجاج ويفتتح بها رواية البحر من روائكم “من تكلم فَعَلناه، ومن سكت مات بدائه غماً”. ذلك القمع الذي هو كالليل، يدرك الأحرار أنّى كانوا. كأن مؤنس يقول لنا المجد إذن للأحرار الذين يرفضون الصمت ويدفعون الثمن مهما كان فادحاً. نلتقي عنده بعديد من الأبطال الذين يجربون عذاب السجن فينكرون هوياتهم حين يضغون، أو يتوبون إلى ضمائرهم فيثبتون، ويبدع الكاتب في تحليل تلك اللحظات من الضعف الإنساني وبواتعثها كما في رواية “أحياء في البحر الميت” ويصحبنا في تعاطف صادق في مسيرة استرداد الكبرياء والحرية الت يتختلف من شخصية إلى أخرى، فهو لا يرسم أنماطاً بل يبدع شخصيات حية لها فرادتها وكينونتها المستقلة. وحتى حين يختار شخصياته من الواقع مثل شخوص عصر الوحدة –عبد الناصر والمشير وعبد الحميد السراج فهو يقدمهم لنا باسمائهم دون كناية أو رمز، ولكنهم ليسوا أبناء الواقع بل أبناء خياله الخصب. هم شخصيات موازية لشخوص التاريخ يصور من خلال تناقضاتهم وانعكاسها الروائي مأساة الوحدة المجهضة التي شعرت أنه يبكيها رغم أخطائها وخطاياها. هو ككاتب خفيف لا يذم شخصياته ويترك لك كقارئ إن شئت أن تذم أفعالها، ولكن لن تغيب عنك لحظة في كل الأحوال رسالة الأساسية بأن هذه الوحدة أجهضت لأنها أجهضت الحرية في المقام الأول.
عند مؤنس الرزاز هي الحرية أولاً وأخيراً، بدونها يكون العدم وبها وحدا يكون الخلاص. وقد يمكن أن نرى أن علاقة الشرق والغرب ملمح أساسي في معمار مؤنس الرزاز الروائي، غير أني لم أشعر أن هذه العلاقة تمثل عنده إشكالية على الإطلاق وفي سياق اهتمامه الأساسي بالحرية والانعتاق فإن التقدم والتراجع مألوفان في الشرق مثلما هو الحال في الغرب، وبذرة الحرية يمكن أن تنبت هنا مثلما ترعرعت هناك شريطة أن ندفع ثمن الحرية.
أحياناً تؤلمه الولادة العسرة فيقول على لسان شخصياته وربما معبراً عما في نفسه، “دفعنا بنفس شخصية ثمناً باهظاً في سبيل الحلم.. فإذا الحلم شرنقة تطبق علينا وتخنقنا في قوقعة كابوسها”.
هذا حزن شريف ومبرر يعانيه أبطال العمل من أجل الحرية ولكنهم لا يستسلمون لهن وهو يردّ على ذلك الهاجس بلغة النص، لا بالتنظير، في قصة قصيرة بديعة هي “النمرود” السجين الذي يراهن أحباؤه أنه لن يبكي حين يطلق سراحه لأنه مناضل وعنيد، إلى آخر الصورة النمطية للبطل الذي لا يعرف لحظة ضعف، غير أن النمرود في الحقيقة بذرف الدموع الغزيرة حين يختلي بنفسه وحيد يخرج إلى الناس يستمد من وجودهم العون ويلقاهم باسم الوجه.
يقول لنا مؤنس الرزاز أن الإنسان يعاني وينهزم ويضعف لكن جذوة الحرية قد لا تحبوا أبداً. بشرنا ولن تخيب بشارته بمولد الفجر الذي حلم به وعمل من أجله أن يشرق نوره.
للأردن أن تفخر بكاتبها الكبير مؤنس الرزاز وبما أسهم به في مسيرة أدبنا العربي، مثلما تفخر بأنداد له في الرواية والشعر جعلوا من الأردن واحة أدبية جميلة تنشر ظلها على وطنها العربي الكبير دون تفريق.
أما أنها فخور بهذه الجائزة، وسأعتبر أني حصلت عليها مضاعفة إذا ما قبلتني رابطة الكتاب الأردنيين عضواً منتسباً لأتشرف بأن يكون اسمي إلى جوار أسماء مؤسسيها، وليقترن باسم مؤنس الرزاز الذي كان رئيساً لها ذات يوم ولأنضم إلى صحبة الأصدقاء من الحاليين، شيبا مثلي وشباناً يعدون بكل الأمل لأدب الأردن ولوطنهم العربي.