منيف الرزاز في يوم اربعينه
لعلني واحدمن اخوان منيف الكثر في ارجاء وطننا العربي الكبير. ولكنني ربما كنت اكثرهم التصاقا ومعرفة به. فما قام بيننا منذ ان كنت تلميذا له وحتى جمعتنا الحياة على دروبها الوعرة الطويلة. وما حفلت به حياتنا هذه من ثقة وتجانس فكري حولت علاقاتنا الى ما يتجاوز الاخوة. بما بنيت عليه من صدق المحبة وعمق الأحترام، يسمح لي ان اعتبر نفسي من اكثر من اصيب بفقده ومن اكثرهم احساسا بالفجيعة فيه.
واذا كنت قد اخترت ان اكتب كلمة في ذكرى مرور اربعين يوما على غيابه عن دنيانا، فانني لاشعر بالعجز عن ان اوفى هذا الرجل حقه، بل بعض حقه، ولا سيما اذا كان ما اقوله سيتوجه الى عاطفة هي من العمق بحيث تعجز الكلمات عن التعبير عنها.
ومع ذلك فقد وجدتني اختار ان اقول القليل مما يعرف او يذكر ابناء وطنه به، كرجل كبير متعدد الجوانب، غني المناقب، معتذراً لهم جميعا، ومعتذرا لأخي الفقيد منيف، انني لست ممن اوتوا القدرة على الكتابة والتعبير الذي يمكنني ان اقدمه اليهم بما هو اهل له.
فمنيف الرزاز لم يكن طبيبا عالما بين الأطباء فحسب، ولم يكن اسما كبيرا من الأسماء الكبيرة في حياتنا القومية فحسب، ولم يكن مناضلا سياسيا فحسب، ولم يكن مفطرا قوميا من الندرة والخلاصة من المفكرين فحسب، ولم يكن مثقفا عميق الثقافة فحسب، ولم يكن كاتباً اديبا فحسب، ولم يكن انسانا امتلأ قلبه بحب الأنسان وايمانا بحقوقه وكرامته وبحب الوطن وابناء وطنه فحسب، ولم يكن شخصية فذة ظريفة شفافة فحسب، ولكن كان كل اولئك في ان معاً
كيف يتأتى لي ان اوفيه ما ملأ قلبي من حب له وتقدير لعقله وفكره واحترام لمزاياه وقد رضي مني وانا تلميذ سابق له، ان افتح قلبه وعقله على حركة البعث العربي، فيغدو من بعد واحدا من ابرز اعلامها ومفكريها والمناضلين في سبيل القضية القومية التي تمثله هذه الحركة.
كيف لي ان انسى انه كان نموذجا حيا لقدرة الانسان العربي على تجاوز ذاته ومطالبه الذاتية وكل مصاعب حياته يوم لمست قلبه وضميره جذوة الايمان بامته وبراسلتها وبحقها في ان تستعيد وحدتها وتحقق حريتها وتقدمها .
كيف لي ان انساه او ان افيه بعض ما له في اعناقنا جميعا، حين لم يرض بأن يكون مجرد رجل يؤمن بامته وبحقوقها، يناضل من اجلها. ولكنه تحول ليكون رجلاً يرزع الأيمان بها في ضمائر اجيال واجيال من اباء امته العربية. ويدخل الحياة القومية من اوسع ابوابها فكان لنا نحن اخوانه واللصيقين به، من منيف معين لاينضب من الفكر الحي واصالة الراي والقدرة على الرؤية في اشد الأيام ظلمة وفي اشد ازمات امتنا تعقيداً.
كيف لي ان انسى ان هذا الرجل قد دخل حياتنا من مختلف اقطارها، حتى اصبح واحدا من افراد كل عائلة من عائلات اخوانه وصديقا حبيبا لكل طفل من اطفالنا، يقبلون عليه بمستوى الود الذي يبذله لهم والحب الذي لا يرونه في عيونه.
كيف انساه وما زالت صورة جلستنا ومنتدياتنا تلح علي، وقد اضاءها بمرحة وفكاهته اللاذعة. فيبدد العبوس والتقطيب من على وجوه اخوانه ويشيع المسرة في نفوسهم. وليؤكذ لهم بان الحياة مهما تعقدت وان مهما اكفهرت فان في الانسان ذاته يمكن جوهر الحياة وان الانسان هو القدير بحسن ادراكه لحقائقها ان يحول كل احباط ويأس الى نوافذ نور وامل. وان الانسان هو مصدر جمال الحياة وجمال الاشياء اذا شاء ان يرى الجمال ويحسه، وهو الذي يجعلها مظلمها اذا اغلق ابواب النور على نفسه.
كيف لا اعترف لمنيف الرزاز بالكثير مما له علي، وقد علمني الكثير وتعلمن منه الكثير، كيف لا اعترف له بالفضل وقد كان معينا لي في ان ازيد منثقافتي وقدرتي على فهم امور وطني وامتي. لا باعتبارها قضايا وامورا منفصلة عن بعضها البعض.. ولكن كقضايا تخضع لشمولية قومية تقع على مسار التاريخ لا خارجه، وضمن منطق التقدم وقواعده ومتطلبات احياء الامة العربية وارساء قواعد وحدتها ونهضتها.
لقد عرف الكثيرون منيف الرزاز. هذا الرجل الكبير الذي فقدناه بل عرفت امته مفكرا اصيلا من خلال ما كتب وما نشر، كما عرفوه وعرفته مناضلا قوميا، وسياسيا ذكيا، غير ان القليلين هم الذين عرفوا فيه روح الفنان التي تكمن في اعماقه.
منيف الرزاز لم يكن شاعرا ولكنه تعشق العبارة الجميلة والقصيدة الجميلة والمعنى الجميلة. ولم يكن موسيقيا بالمعنى الدقيق ولكن كان يفهم الموسيقى فيعطبه اللحن العذب والاداء الفذ والصوت العبقري. واذا كان يعزف قليلا عى بعض آلات الموسيقى، فانه كان يذوب جوى حين يسمع الجيد من الغناء والموسيقى.
منيف الرزاز لم يكن اديبا تقليديا، ولكن كل من قرأ كتاباته السياسية والفكرية كان يحس بلا ريب بقلم الاديب وروحه وحسن اختاره للكلم والعبارة وتمكنه من اللغة .
منيف الرزاز لم يكن رساما ولكنه كان ينجذب بقوة الى اعمال الرسامين وتستوقفه اللوحات التي يحس فيها روح الانسان اشراقاته وعبقريته، محاولا استكانه اسرار الجمال فيها، جمال اللون وجمال الحركة وجمال الفكرة.
منيف الرزاز لم يكن ممثلا، وان اعجبه دوما ان يكون قادرا رواية قصصه وملحه واستعار من اشخاصها لهجتهم واسلوب كلامهم وبعض حركاتهم، فيضفي بذلك على روايته ابعادها الكاملة فتستمع اليه وكأنك ترى اشخاصا احياء مجسدين.
منيف الرزاز كانت تاسره النكتة الذكية يسمعها بفرح، فيضحك لها من اعماق قلبه.
كان منيف يحب المجربين الكبار من ابناء شعبه الذين ادركوا الحياة بكل ما فيها ودخلوها من كل جوانبها بما فيها من خلاوة ومرارة، فيرتبط بينه وبينهم بصلاة مودة لا يقطعها ابدا .
كان واسع الصدر متفهما للانسان في قوته وضعفه، يرى الناس مزاياهمبجانب عيوبهم ويغفر خطاياهم التي يعتبرها جزءا من انسانيتهم. ويتجاوزها، ولكن لم يكن يغفر لمن يخون وطنه.
وبعد كيف لا احاول ان اقول كلمة الحق في منيف وقد عرفت من اعرف الناس به، بانه وهو في مخنته القاسية التي اجتازها في اواخر حياته. كان معلق القلب بالعراق وبانتصاره على اعدائه اعداء الامة العربية. يفرحه ان يرى ابطال العراق ينتصرون على المعتدين ويسؤوه ما يلقى العراف من العرب تخل وتخاذل وخذلان.
لقد كان طموحي ان اختفي بمنيف الرزاز يعود للاردن حيا وقد لمعت عيونه بانتصار امته وتحقيق امانيه امانيها في الحرية الوحدة والنهضة والتقدم. ولكنني وانا ارثيه اليوم متذكر ومذكرا بالقليل من مزاياه وصفاته لا اجد ما يكفيه من الوفاء الا ان اقبل تراب الوطن الذي ضمه انبا بارا من ابناءه اخلص له الحب واجتهد في ان يكون في مستوى ايمانه به وبأهله.
ليرحم الله ابا مؤنس، فقد كان ملء قلوبنا وعقولنا. وانه سيظل حيا في قلوبنا وعقولنا ولو غاب عن عيوننا.