الحرية ومشكلتها في البلدان المتخلفة

صدر عام 1965   http://www.mediafire.com/?x4yz1ushbbb149k

الخبز أم الحرية  – الصفحات 5 ، 199 ، 201

قضية الخبز وقضية الحرية هما قضيتا الإنسان في كل زمان وفي كل مكان . وحين يقول بعض المفكرين إن تاريخ الإنسان هو نضاله من أجل الخبز، وحين يقول البعض الآخر إن تاريخ الإنسان هو نضاله من أجل الحرية ، فكلاهما يقول نصف الحقيقة. ان زيف الحرية الإقتصادية، في ظل الدكتاتورية السياسية، لا يقل عن زيف الحرية السياسية في ظل الإستغلال الإقتصادي وقد تزعم أن تدخل الدول الكبرى وتآمرها يفرضان على الدولة ان تحد الحريات لتقضي على التآمر. وهذا حق أيضاً. ولكن ما أكثر ما تجاوزت الإجراءات المتخذة  حدود الضروات المحتمة، لتصبح هذه الأجراءات غاية في ذاتها، بدل ان تكون وسيلة لغاية.

ان الفرق الأساسي بين شعب متقدم وشعب متخلف  قد يظهر في ما يحقق كل منهما من إنجازات مادية تظهر في مستوى الإنتاج وفي مستوى القوة العسكرية، ولكنه انما يكمن في القوى الخلاقة في هذا الشعب، وفي ما يحقق من امكانيات كل فرد فيه،
وفي ما يفتح أمامه من مغاليق الآمال، وإمكانيات التطلع الى مشارف المستقبل. إن تحقيق قدرة الفرد على الخلق والابداع وعلى طلب التغيير المستمر وعلى الانطلاق من قيود التقليد الأعمى والانصياع التام هو القياس الحقيقي لتقدم أي شعب.

طريق  الدكتاتورية – الصفحات:  202 ، 202 ، 203 ،204 ،205، 207 ، 208، 209 ،217

إن الدكتاتورية … تريد ان يتبع الشعب قادته المتحكمين، وان يؤمن بما يؤمنون به،  ويكفر بما يكفرون، دون مناقشة ولا جدل. وقد يغير الحكام ما يؤمنون به بين سنة وأخرى فما على الشعب حينئذ إلا ان يغير إيمانه معهم، بل وفي نفس الوقت، وكأنه وصل معه الى القناعات نفسها دون ان يسمح له بتقديم أو تأخير. هم ينشدون “تبعية” ويسمونها “وحدة الشعب” أو يسمونها انسجاماً وتجانساً أو ما شاكل ذلك من الأسماء.

الفرق بين التخلف الرجعي والتخلف الدكتاتوري الحديث هو أن التبعية في الحالة الأولى تبعية طبيعية لأنها هي نفسها طراز الحياة، وفي الحالة الثانية هي تبعية قسرية تقوم على ارهاب السلطة وبوليسها ومباحثها واجهزتها المتعددة، كما تقوم على
أساس الأستعمال الواسع لدعاية المركزة في الصحف والإذاعات والجمعيات والمهرجانات والخطابات من اجل دفع الشعب الى هذا “الانسجام” التبعي و”الوحدة الوطنية” التبعية، دفعاً عاطفياً نفسانياً الى جانب ذلك الدفع القسري المفروض.

ومع هذا فان الدكتاتورية الحديثة يفوتها شيء اساسي في حسابها، هو ان كل تقدم مادي تحققه، سواء كان اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، هو قوة دافعة لنواحي الحياة الأخرى التي لا تريد الدكتاتورية لها الظهور وهي قد تنجح فعلاً في إخفائها، ولكنها لا يمكن ان تنجح في وأدها. وحين تكتمل لهذه النواحي عوامل الظهور فهي لا بد ان تجد طريقها القوي للتعبيرعن وجودها.

إن هذه الحركات اللضالية الشعبية لم تقم بما قامت به بالقسر ولا بالطغيان، ولا بالأمر والتبعية، بل قامت في حقيقتها ثورة على هذا كله ممثلا بالإستعمار، على اكتاف من حمل مسؤولية النضال مختاراً لا مجبراً، مضحياً لا مستفيداً، مؤثراً لا مستأثراً، فكانت هذه الحركات بالفعل حركات تقدمية صميمية لأنها حملت معها بذو نمائها ونضوجها، بذور الحرية في الأختيار المطلق، حتى في اختيار الإستشهاد. وهي من اجل ذلك نجحت في طرد الإستعمار، ذلك العدو الجبار الهائل الذي طغى بكلكله الثقيل على البلاد وعلى الناس عشرات ومئات من السنين. هذه القوة الجبارة هي رأسمال كل تقدم شعبي حقيقي، وهي ضمانة كل تطور الى الأمام، وليس ثمة من غيرها من ضمانة. وهي هي نفسها التي اصطدمت بعد ذلك بالحكم الرجعي القائم، والتي اصطدم بها، وحاول أن يهزمها، ولكنها كانت منطلقة تقوى وتشتد يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، وكان وجودها هو ضمانة التغيير، والأنتصار في المستقبل للحرية السياسية والاقتصادية جميعاً.

هذه القوة الجبارة كان نصيبها من معظم انظمة الحكم في اقطار آسيا وافريقيا ان تضرب بقسوة وبلا هوادة، إما صراحةً ودون مواربة لا سيما اذا كان الحكم رجعياً، وإما أن يحاول الحكم، اذا ظهر بمظهر التقدمية، الوصول الى هدمها عن طريق تبنى شعاراتها واهدافها، ثم احلاله نفسه محل هذه القوة بالتدريج، بالحيلة احياناً، وبالقسوة احيانا اخرى، حتى يقضي على كل اثر من آثار وجودها وحيويتها، وكأن الحكم، وهو مؤقت وزائل، يحاول ان يحل كقوة دافعة، محل هذه القوة التي خلقها النضال الطويل.

ولكن الحكم الدكتاتوري لا يحرم الثورة تقدميتها وقوتها فحسب، بل ينسف نفس اغراضه التي يدّعي بأنه يخدمها ولا سيما في الحقول الإقتصادية والثقافية والصحية.

 ان مثل هذا الحكم انما ينتهي بالمواطنين الى اللامبالاة الغارقة في حمأة انعدام المسؤولية، الهادفة الى حفظ الذات من بطش السلطة، الفاقدة كل حماس لأي شيء، حتى لأنفسهم ذاتها. هؤلاء المواطنون اذ يساهمون في تنفيذ البرامج التي يرسمها جهاز الحكم القائم لأنهم الجزء المنفذ لهذه البرامج  إنما يساهمون فيها اطاعة للأمر، واتباعاً للقوة، وخوفاً من البطش، ومحافظةً على الروح أو على الطمأنينة أو على السلامة، ولكن لا حماساً لها ولا ايماناً بها، حتى ولو كانت تستحق، ولو ترك الأمر لهم، الحماس والايمان. ان هذا الشعور باللامبالاة هو أخطر ما يمكن ان يتعرض له شعب. لأن المواطن، من خلاله، يفقد الشعور بالمسؤولية، ويضع هذه المسؤولية كلها على اكتاف جهاز الحكم

حتى القضايا القومية الكبرى، تلك التي يعتمد على تغذيتها وتقويتها كل حكم دكتاتوري من أجل ان يضمن قدراً من الحماس حوله يعينه على البقاء، تصبح: في كثير من الأحيان، مجرد شعارات ودعاية غوغائية، بعيدة عن ان تدخل صميم القلوب وتحرك مشاعر الحماس فنار الحماس لا تعيش في فراغ، ولا يمكن ان تتوقد بأمر، وان تنظفئ بأمر، وانما تتوقد حين يتاح لها الهواء النقي الذي يضمنه الشعور بالمسؤولية، ويتاح لها المجال بالتعبير الدائم عن نفسها، وتفتح أمامها فرص العمل بتطبيق هذا الحماس على الواقع اليومي. والحماس الوحيد الذي يشتعل بأمر ينطفئ بأمر، لهو حماس الانتهاز والمصلحة والاستغلال.

إن اسوأ ما يمكن ان يصيب الشعب في ظل الحكم الدكتاتوري هو فقدانه للموازين الخلقية. فالاقتصاد قد ينمو. ومستوى الحياة  قد يتحسن. والقوة العسكرية قد تتضاعف وتتعاظم. والمدارس قد تتسع. والحالة الصحية قد ترتفع. والسياسة الخارجية قد تنجح. ولكن شيئاً واحداً لا بد ان يتدهور باستمرار هو المستوى الخلقي.

مهما بالغت اجهزة الحكم في الدعوة الى النقد والى المشاركة بالرأي فهي ابداً تطلع،  وبعطش، للرأي  المؤيد المساند. وهي أبداً تتلقف الرأي المعارض، إن سمحت به، لتخنقه وتئده إن عاجلاً أو آجلاً. واذا بالرأي المعارض- يصبح تآمراً، وإذا بأي اختلاف في الرأي يتحول الى خيانة واذا كان ثمة من هو غير راض عن الحكم فإن معارضته لا بد ان تكون معارضة سرية. ولكن الدولة التي تحس بسرية هذه المعارضة تحاول أن تدفع هذا الخطر بمزيد من رجال البوليس السري. وما يلبث هذا البوليس أن يصبح هو القوة الفعالة الحقيقية في الشعب، لأنه هو سبيل الحكم الوحيد للبقاء، وما يلبث الحكم نفسه أن يصبح أسير هذا الجهاز الذي خلقه.

إن المواطن الصالح، في رأي مثل هذه الدولة، هو المواطن الطيع الهتاف المصفق الذي يسند كل حركة للدولة أو رأي لها. فأن لم يكن ذلك ميسوراً دائما، تلاه في الصلاح المواطن الذي يهتم بشؤونه الشخصية، ويترك شؤون الحكم، رأياً وتخطيطاً وتنفيذاً، لرجال الحكم وحدهم.

المواطن الواعي، الشاعر بمسؤوليته، ليس له مكان في ظل هذا الحكم. إنه لا بد ان ينتهي به الأمر الى العزلة أو السجن أول الإهمال او الموت، ومصيره دائماً درس لغيره من المواطنين الذين يريدون ان يتعلموا الدروس.  في مثل هذا الجو يترعرع خلق الإنتهاز والفساد والجبن، وتنحسر موجة الرجولة والصدق والجرأة خجلى.

ليس ثمة تقدمية بلا حرية ، الحركة التقدمية التى تنسى ان من اول واجباتها إقامة أسس الحرية أو التي تمعن في كبت الحرية ، فتجاوز في كبتها ضرورات المرحلة المصيرية، إنما تقضي على نفسها بنفسها. انها تنسف ذريعة انطلاقها ومبرر وجودها.

طريق الحرية – الصفحات : 218 ، 220 ، 221

إن تحقيق التقدم الإقتصادي الموعود حين يتم بعيداً عن الحريات الديموقراطية السياسية إنما يتم، اذا تم، على حساب كرامة المواطن وشعوره بشخصيته وذاته وحريته وقيمته ومشاركته في حمل المسؤولية العامة وحقه في تقرير مصيره وفي ابداء رأيه.

ومن هنا فإن ازمة الحرية نفسها التي تمر بها هذه الأقطار هي طريق تنمية الوعي الشعبي على معنى الحرية الأصيل،  ونضوج ادراكه بأن الحرية لا تتجزأ، وأن من المستحيل تحقيق تحرر اقتصادي في ظل استبداد سياسي، او تحرر سياسي في ظل استعباد اقتصادي.

إن الحرية كل لا يتجزأ. انها قد تنمو وتنضج، ولكنها لا يمكن ان تنمو في ناحية في نفس الونقت الذي تنكمش فيه في ناحية ثانية.

والعيش في ظل جدران مغلقة تمام الإغلاق لم يعد متاحاً لأي قطر من اقطار العالم. والاتصال بالرأي العام العالمي، أخذاً وعطاء، اصبح ضرورة حتمية لا مهرب منها. وفي مثل هذه الحال فالحكم التقليدي لا بد ان يحاول ان يبدو للشعب في الداخل، او لشعوب العالم في الخارج، و كأنه يحقق الديموقراطية، ويقوم على اساس شكل من اشكالها. لقلما قام حكم من هذا النوع دون الاعتماد على برلمان، ولو شكلي ودون نص في الدستور على حريات، ولو عطلتها بعد ذلك القوانين، ودون محاولات في الإصلاح الإقتصادي والتعليمي والصحي، ولو كانت في شكل استغلالي أو منحرف أو ضيق المدى.

وكل خطوة في هذه السبل جميعاً خطوة تمهيدية في تقريب المدى الطويل للوصول الى الحرية حتى ولو لم تكن هذه الخطوة مقصودة بهذا المعنى.

أما الحكم “التقليدي” المعرض عن الحرية فهو مضطر كذلك ان يبرز تقدميته في الميادين التي لا يرى منها خطراً على وجوده، والتي تبرر في الواقع وجوده وطغيانة. ففي الميدان الإقتصادي وميادين التعليم والصحة يضطر الحكم الى التركيز على التطوير والتوسيع والاتجاه الى قاعدة الشعب ما امكنه ذلك، لأشراكه في فوائد هذا التطوير ولاشعاره بالفوائد الجمة التي تعود عليه من وراء مثل هذا الحكم ومثل هذا النظام. ثم هو مضطر الى سلوك سياسة خارجية تعتم على اذكاء الشعور القومي وهو مضطر الى سلوك سياسة دعائية تطرح فيها شعارات تقدمية لا بد ان تجد صداها وأثرها في نفوس الجماهير حتى حين تتقاعس الدولة عن تنفيذها. ولا بد لهذا كله ان يترك أثره الفعال في نفوس الجماهير والشعب، ليظهر بعد ذلك حركات ومؤسسات وتنظيمات، ولو لم يتح له ان يظهر بهذا الشكل في ظل الحكم القائم.

ان كل مصنع يفتح، وكل عامل ينتقل من الإنتاج التقليدي الى الإنتاج الحديث، وكل فرد يتعلم، وكل مستوى في الحياة يرتفع، وكل شعار يطلق، لا بد ان يكون لبنة جديدة في بناء الرحية يظهر اثرها في مستقبل الأيام ولو لم يردها اصحابها كذلك.

إن هذه النكسات نفسها، مهما بلغت من القسوة العنف، ليست في المجال الطويل الا نكسات في مظاهر الحرية فحسب. وأما الأسس، في النفوس، في القوى، في الظروف، فهي- حتى خلال النكسات – نامية، متطورة، مقتربة أكثر وأكثر من النضوج. حتى الظلمة لا بد ان تشارك في تعميم النور.