الذكرى الثلاثون لرحيل المفكر منيف الرزاز
عندما دعاني د.احمد ماضي باسم رابطة الكتاب الى القاء كلمة عائلة منيف الرزاز, كنت قد فرغت من اعادة قراءة اعمال منيف الرزاز الكاملة.
اعدت قراءتها علني اضع اصبعي على مكمن الفشل الذريع في الحلم العربي، كان الحلم دولة الوحدة والنهضة من المحيط إلى الخليج، فأصبح الحلم كابوس تشرذم دول (سايكس بيكو) إلى دويلات طائفية.
كيف انتقلنا من الحلم إلى الكابوس؟
سعيت إلى فكر والدي وتاريخه النضالي، علني أجد بعض الأجوبة.
لقد كتب الرزاز بغزارة حول مواضيع عديدة منها ما يتعلق بالوحدة العربية والقضية الفلسطينية والفكر القومي ومشكلة الحرية والتجربة الاشتراكية. ولقد تطور منهجه البحثي حيث تميز بشيء من الرومانسية في البدايات وانتهج الأسلوب العقلاني الديالكيتكي في النهايات.
ولكن اعادة المراجعة لكل ما كتب وفي سيرة حياته تؤدي الى نتيجة مهمة وهي انه عبر أربعين عاما من الفكر والعمل جسد منيف التزاما بتحرير الإنسان العربي من القهر السياسي والحرمان الاقتصادي»، وسأركز هنا على «هاجس الحرية بالتحديد الذي واكب كل ما كتب وواكب ايضاً كل مواقفه المبدئية التي دفع ثمنها بحياته, ففي كتابه الأول «معالم الحياة العربية الجديدة»، (1952) الذي نال الجائزة الأولى في مسابقة جامعة الدول العربية، خصص الرزاز الحيز الأكبر من الكتاب لقضية حقوق المواطن. واستفاض في الحقوق السياسية وخصوصا حق الانتخاب وحرية الفكر والتعبير وحقوق المرأة.
وفي «تطور معنى القومية» سنة 1957 كتب عن معنى جديد للقومية حيث قال «هذه القومية الجديدة تؤمن بالحرية. لأن ثورتها ضد الاستعمار في أحد مظاهرها ثورة ضد الاستعباد. أي ضد كبت الحريات وضد الحكم المطلق وضد الحكم الدكتاتوري».
ومن أهم ما كتب منيف الرزاز: (الحرية ومشكلتها في البلدان المتخلفة)، عام 1965، وهذا الكتاب لم يلق ما يستحق في البحث والتحليل، وفيه اراد أن «يحدد أزمة الحرية في الوطن العربي وخطر نزعه الاستبداد وكيفية تلاقيها، ويقول بعد أن يعرف الحرية الحقيقية وإشكالياتها:»مهما بلغت اجهزة الحكم في الدعوة الى النقد والى المشاركة بالرأي فهي ابداً تتطلع وبعطش للرأي المؤيد المساند. وهي ابداً تتلقف الرأي المعارض, ان سمحت به, لتخنقه وتئده ان عاجلاً أو اجلاً. واذا بالرأي المعارض.. يصبح تآمراً واذا بأي اختلاف في الراي يتحول الى خيانة, واذا كان ثمة من هو غير راض عن الحكم فإن معارضته لا بد أن تكون معارضة سرية. ولكن الدولة التي تحس بسرية هذه المعارضة تحاول أن تدفع هذا الخطر بمزيد من رجال البوليس السري. وما يلبث هذا البوليس ان يصبح هو القوة الفاعلة الحقيقية ضد الشعب, لأنه هو سبيل الحكم الوحيد للبقاء, وما يلبث الحكم نفسه ان يصبح اسير هذا الجهاز الذي خلقه».
ويعرج منيف الرزاز على شخصية القائد واشكاليتها فيقول: «ان وجود القائد القدير الفذ في اي قيادة نعمة كبرى. ولكن لجوء هذا القائد نفسه الى اسلوب القيادة الجماعية.. يخلق مدرسة لتخريج قادة جدد باستمرار. بينما تفرده بالقيادة هو طريق لتخريج الانتهازيين والمنافقين..»
في كتاب «التجربة المرة» الصادر سنة 1966 يقيّم الرزاز تجربة حزب البعث في سورية وينتقد وسيلة الانقلاب العسكري للوصول الى السلطة وتفريغ الحزب من محتواه الديقراطي منبهاً الى أن غياب الممارسة الديمقراطية (يحول الحزب إلى حزب يبروقراطي فاشستي الأسلوب، إن لم يكن فاشستي الاتجاه.. ويعني أن كل.. المؤسسات لا تعدل في أهميتها وفعاليتها أهمية وفعالية وجود بضعة ضباط يعتمد عليهم في بعض الأماكن الحساسة في الجيش، ويخلص الى القول إن « ظاهرة الحكم العسكري اصبحت ظاهرة في منتهى الخطورة وانها اصبحت تهدد الحركة القومية العربية تهديدا حقيقياً وخطيراً»، وهذا ما حدث بالفعل. ونتج عنه ما نحن فيه من احباط اليوم.
ويعطي منيف الرزاز بعدا اخرا ايجابياً للحرية في كتابه «فلسفة الحركة القومية العربية» حيث الحرية في الانفتاح على جميع ثقافات العالم وخصوصاً التحررية منها, ويقول «فكر العالم الثالث لا يمكن ان ينغلق لا عن تراثه هو, ولا عن تراث الانسانية ولا عن الفكر الحديث. وانما ينفتح عليها انفتاحاً كاملاً, يعب منه, ويمتص ويغني ذاته, ليبدع فكره هو وليسهم بعطائه هو, وليشارك في الفكر العالمي في اصالة وفي خلق جديد. وكانت سيرة حياته تجسيداً لهذا الفكر.
أما السؤال الذي لم يجد له اجابة معظم محبي الرزاز وتلامذته فهو لماذا ذهب الى العراق سنة 1977 بعد كتابه «التجربة المرّة» وبعد ان عزم اوائل السبعينات ان يطلّق العمل السياسي ويتفرغ الى علاج مرضاه والى الكتابة ؟
ليت المرحوم مؤنس بيننا اليوم ليجيب على هذا السؤال، فقد كان هذا السؤال هاجسه ايضا وموضوع رسائل ونقاش مُستفيض تبادله مع الوالد، لم يبق لدينا موثقا الا رسالة كان مؤمن قد أرسلها الى اخيه د.سليمان المخادمة 1977، أحضرها الأخير عندما التقينا لنحيي ذكرى مؤنس، وهنا مقاطع من الرسالة، ويبدو ان د.سليمان كتب لمؤنس متسائلا عن قرار الوالد بالذهاب الى العراق، فكتب مؤنس
أما ان اضيق بتساؤلاتك فهذا ليس واردا لسبب بسيط ان تساؤلاتك هي عينها تساؤلاتي، فمنذ ان سمعت خبر(انتخاب والدي في القيادة في العراق) أصابت نفسي كآبة حادة ودهشة صاعقة احتفظت بها في اعماقي راسما ابتسامة مزيفة اقابل بها تهاني الرفاق التي تدفقت علي من كل حدب وصوب بعد انتشار الخبر، «وبقيت» في وحدتي القاتلة وقلقي العنيف حتى وصلتني رسالة من أمي، وقبل ذلك بايام رسالة من والدي.. فهدأت قليلا واطمأن بالي «على مضض».
اما رسالة امي–وقد تأثرت بها الى ابعد الحدود–فتصف والدي بانه ذلك البدوي القلق الذي سمع نداء الحياة السري فراح يبحث عن سيف او درب يجعل من خلاله ذلك النداء مسموعا، فمأساته انه فيلسوف لا يكتفي بالكلمة ومقاتل لا يقنعه السيف، اما رسالة والدي التي أثرت فيّ بدورها تأثير هزني هزا.. فملخصها: انه ما عاد باستطاعته ان يكتفي بالتفلسف والنقد والتفرج انه سيحاول ان يشارك في التغيير، وانه يملك نفس الاسئلة التي املك انا.
يختم مؤنس الرسالته الى د.سليمان: احاول فهمه.. ذلك انني اعرف–بل هو ايضا يخبرني في رسالته–عن ذلك الصراع المأساوي العنيف الذي كان يدور في صمت في تلك الاغوار السحيقة في اعماقه بين المنظر وبين المقاتل.
هذا الفيلسوف منيف لم يكتف بالكلمة، والمقاتل الذي لم يقنعه السيف، سقط في العراق بعد ان اعيته الحيلة واستنفذ الجهد للاصلاح والتغيير، قضى مُضرجاً بدماءه عام 1984 بعد خمس سنوات من الاقامة الاجبارية في بغداد، من جراء تناول سُماً مدسوساً له ادى الى نزيف داخلي حاد وبدون اسعاف حتى مات اختناقا على مرأى من زوجته وابنته اللتان شاركتاه البيت–الزنزانة طوال سنوات الاقامة الاجبارية.
ونُقل جثمانه بالطائرة الى عمان التي احبها واحبته ووري جثمانه الطاهر في تراب الاردن العزيز على قلبه.
`هكذا أنتصر النظام آنذاك في اغتيال فكر متألق وموقف ثابت وقلم حُر، هكذا نجح في منع الرزاز من كتابة كتاب اخر يتابع التحديق في التجربة المُرة ليكتب عن «التجربة الأمرّ»، لكن ولحسن الحظ فإن اغتيال منيف الرزاز لم يطل اغتيال فكره ولم يطل اغتيال نموذجه في الحياة، هذا النموذج الذي اختار التجديد المستمر من خلال تغليب العقل والمنطق على التقليد والموروث المتزمت، وعزّة النفس التي تتأتى من القدرة على الحوار والانفتاح على جميع الآراء وعدم الشعور بالنقص او الخوف تجاه الاخر، و المصداقية التي تتأتى فقط من تطابق كامل بين الفكر والتطبيق، بين النظرية والممارسة.
كان هاجس منيف الرزاز في الحرية والالتزام هو هاجس كل مفكر وكاتب ومناضل اصيل، وأطعناه الطاعة العمياء، و سرنا خلفه حيث سار. و لكن هذا الجيل القديم كان يسير وهو لا يكاد يعرف إلى أين المصير وكان يجاهد وهو لا يكاد يدري أين تستقر به الأمور لا سبيل مرسوم و لا اتجاه واضح ولا غاية ملموسة، حتى تردينا في هذه الهوّة السحيقة التي انتهينا إليها، و دفعنا لها ثمنا ً باهظا ً كلفنا لا اموالنا وأنفسنا وأوطاننا وبيوتنا وملاعب صبانا فحسب، بل لقد كدنا ندفع لها ثمنا ً إيماننا بحقنا في الوجود، وعقيدتنا بإمكانيات هذه الأمة, وعزمنا على أن نخلف أمة جديدة حيّة قادرة على أن تؤكد ذاتها في العالم الجديد.
إننا لم نشعر يوما ً بالحاجة إلى دم جديد و جيل جديد وعقلية جديدة كما نشعر هذه الأيام، أن نفسيتنا في حاجة إلى انقلاب عميق، حقيقي، ينبعث من ذواتنا ويصدر عن شعورنا بالألم، الألم القاسي العنيف الذي يصور نفوسنا و يغسلها من أدرانها ويبعثها حيّة جديدة نشيطة تنسف إرث الماضي وتخلق أمة من جديد, ولا اظن امة مرت في تاريخها بدور عامر بالالم القاسي العنيف كما تمر امتنا في هذا اليوم, بل في هذه الساعة الى تطهير نفوسنا والارتفاع بذواتنا الى مستوى جديد من الايمان ومن العقيدة ومن العمل المنتج الدقيق.
لقد كفرت الأمة بقادتها وزعمائها ، ولكنها وجدت نفسها في جو غامض من التخبط والبلبلة، دفعها إلى أن تدير رأسها هنا و هناك تنشد قائدا ً جديدا ً و زعيما ً جديدا ً، وهيهات ! إن هذه الأمة إذا أرادت لنفسها أن تحيا مرّة أخرى وأن تبعث بعثا ً صحيحا ً وأن تتجنب المهاوي والأخطاء ، فإن عليها أن تفتش لا عن زعيم يقودها بل عن نفسها وفي ذواتها وفي قلوب أفرادها، أفرادها جميعا ً بلا استثناء.
من عناصر الحياة و الإيمان والتجدد لتخلق شعبا ً جديدا ً ذا مبادئ جديدة و وسائل جديدة تواجه ملمات الزمان، إن خلاصنا في أيدينا ، أيدينا نحن، أيدي الأمة جميعا ً لا في يدي زعيم ولا في مكنة قائد. لقد وضعنا إيماننا في أفراد، فأضاعنا هؤلاء الأفراد، و في خلال ذلك أهملنا إيماننا في أنفسنا، إن واجبنا الآن أن نحقق ما أضعناه من جديد.
و في يد الجيل القادم الجديد، هذا الخلق وهذا الإبداع المنتظر إن على هذا الجيل أن يفهم حق الفهم وأن يقبل هذا الفهم في صميم عقيدته وإيمانه وكيانه، أن أمته التي وضعها الله وسطا ً بين أمم الشرق والغرب أمة ذات رسالة وذات إمكانيات ، وأنها حققت وجودها مرّة و أنها ستحقق وجودها مرّة أخرى، وعلى هذا الجيل أن يفهم أن مقومات الأمة أفرادها وأن الأمة لا تصلح إلا إذا صلحت نفوس مقدماتها و سمت وارتفعت عن صغائر الأمور وتمسكت بمثل عليا رفيعة سامية ، وأن هذه المثل لا تفرض عليه من الخارج ، ولا هي بالأمور التي نتركها لأن غيرنا لم يتمسك بها، وإنما هي مُثل ْ نحققها نحن ، وتنبعث من نفوسنا نحن، لشعورنا العميق بضرورتها وأهميتها و أن علينا أن نتمسك بها بقوة فلا تنحل قبضتنا لو بقينا نكافح وحدنا، إن عليه أن يحطم الأصنام العبيد وأن يحطم بالي التقاليد، وأن يخلق مثله العليا لا بما أورثه إياه الآباء فحسب، ولا بما علمه إياه الغرب فحسب، ولكن من نفسه العميقة الشاعرة بذاتها، المدركة لأهميتها المفكرة في كيانها، مستمدة من تاريخها القديم ومن تعليمها الجديد ومن ظروف بيئتها وأحوال مجتمعها، وعلى هذا الجيل أن يفهم أن الوسيلة لا يمكن أن تختلف عن الغاية ، وأن الغاية النبيلة لا يمكن أن تبرر الوسائل الحقيرة للوصول إليها، لأن الإيمان بالغاية إيمان نفسي عميق يجب أن يتغلغل في كل خلية من خلايا كياننا حتى يأخذ علينا كل أعمالنا وحركاتنا وأفكارنا فلا نحيد ولا نسمح لأنفسنا أن نحيد.
إن الإيمان بالمبدأ النبيل يستتبع العمل النبيل ويستتبع الحياة النبيلة في أصغر تفاصيلها ودقائقها ، والجيل القوي يجب أن يكون صورة للأمة القوية في تفاصيل حياته، في منحنيات تفكيره، في صدق عواطفه وفي استقالة اتجاهه. وعلى هذا الجيل أن يقلب مقاييسه الخلقية رأسا ً على عقب، إذ يجب أن يدرك أن أزمتنا الحاضرة أزمة خلقية في الدرجة الأولى، فقد سمعنا خلال قرون طويلة أن أساس الخلق أساس يعتمد على الابتعاد عن الآثام ، والانزواء عن الزلل والامتناع عن المعاصي.
آن الآوان لكي نؤمن أن أساسنا الخلقي يجب أن ينقلب إلى أساس إيجابي بناء ً يعتمد على العمل المثمر والواجب الملح و المسؤولية الجسيمة. ليس أفضل الناس من يسلم الناس من أذاه ، لقد ولّى عهد هذه الحكمة الغالية، و لكن أفضل الناس من أعطى الناس مما أوجبته عليه مسؤوليته كفرد من أفراد الأمة، إنه فرد، فرد واحد، لكنه أحد من مجموع، فإذا لم يذكر هذا المجموع فبعيدة عنه القوة وبعيدة عنه صفات الجيل القوي.
إن السؤال الخلقي الخالد يجب أن يتحول من ما «الذي نتجنبه لنكون صالحين» إلى» ما الذي نعمله لنكون صالحين»، على هذا الجيل أن يعرف كيف يقول « لا « حيث تجب « لا «، لكنه يجب أن يدرك أن قولة «لا» ليست ذكر حرفين، بل مسؤولية تحتاج إلى تهيئة، وتحتاج إلى مجهود جبار وتستدعي عملا ً جاهدا ً قاسيا ً، وتستتبع استعدادا ً منظما ً عاتيا ً، لقد قال زعماء جيلنا القديم « لا « مرات لا يكاد يحصرها العد، ولكنهم قالوها و انقلبوا إلى أهلهم فرحين بأنهم قالوها، فإذا قالها الجيل الجديد فيجب أن يدرك أن لها مسؤوليات ترتبت عليه وتضحيات جسيمة تتطلب منه، وعليه أن يهيئ نفسه لهذه المسؤوليات و هذه التضحيات. وعلى هذا الجيل الجديد أن يؤمن مدفوعا ً من نفسه ، بمثل يخلقها من ذاته، بحريته التامة ، وأن يعمل حسب هذا الإيمان جاهدا ً مخلصا ً في كل دقائق حياته، لا لمنفعة نفسه كفرد، لكن كفرد في مجموع، بمثل هذا الجيل القوي تعيش أمة فتؤدي رسالة، وتحقق وجوداً.
http://www.alrai.com/article/670672.html