لمعة بيسسو: أمسكت بيد منيف الرزاز حتى أماتوا الضياء بعينيه

كتبت أجمل قصائدها التي لم تنشر بعد لزوجها وهو في سجن الجفر، ودونت رسائلها لبقية الأسرة في عمان وهما معا في بغداد قبل أن يُقتل زوجها ويتجرع السم ويموت، وقد تركه الرفاق ينزف بين ذراعيها على ضفاف دجلة، فكتبت ترثيه بالقول:

“لا ترحل…لا ترحل

ففي صدرك الكبير

يرقد الحلم الأكبر

وعينك ما زالت ترقب

لا نريد أن نصدق

أن الحلم مات

وأنه مات حين قيدوك

وحين سرقوا أيامك..”.

 

عرفها الناس زوجة مناضل كبير، وأما لأديب وكاتب دوّن في عمان أجمل أعماله؛ “متاهات الأعراب في ناطحات السحاب”، “اعترافات كاتم صوت”، “قبعتان ورأس واحد” وغيرها، وكحال جميع زوجات المناضلين انشغل الناس بالمناضل وتجربته وتركوا البقية.

 

لمعة بسيسو الرزاز هنا مديرة منزل وامرأة مثقفة، تشارك وتكتب في المجلات، وهي الحبيبة التي تكتب الرسائل القصائد للزوج المناضل في سجن الجفر.

ولدت في مدينة حماة العام 1923 بحكم عمل والدها بالإدارة العثمانية. والوالد صالح بسيسو من الذين درسوا القانون في مدارس اسطنبول، ثم عمل بالقضاء في حكومة فيصل بن الحسين بدمشق، وبعدها جاء إلى عمان مع نشوء الإمارة.

 

تتذكر لمعة أن الأسرة سكنت وسط البلد في منزل شركسي، ثم في منزل لأحد أبناء عائلة الور “وكان المنزل الوحيد الذي بني من الحجر الأبيض”.

 

بالكاد تتذكر طفولتها في عمان، وتصفها بأنها “طفولة صعبة جدا”. أما الدراسة، فلغاية الثالث الابتدائي درست في مدرسة بعمان لا تحددها، غير أنها تقول بأنها “كانت لبيت هاشم، مقابل بيتنا، ومن معلماتها واحدة اسمها سعاد وأخرى ميليا غنما، والأخيرة كانت معلمة العربي”.

 

منزل والدها القانونجي صالح بسيسو كان يعج بالسياسيين، وفي 18/4/1928 أسس “حزب أنصار الحق”، مع مجموعة من الأحرار الوطنيين، منهم علي خلقي الشراري وحسين الطراونة وفواز البركات الزعبي وعارف العارف وعادل العظمة وغيرهم، وهو الحزب الذي تمخض عنه الميثاق الوطني الأول والذي سعى في 15/7/1928 إلى عقد المؤتمر الوطني الأول بمقهى حمدان.

 

تدرج والدها في عدة مواقع إبان حقبة الإمارة، ومنها مديرا للعدلية، وفي عهد المملكة أصبح عضوا في مجلس الأعيان.

في منزل الوالد تثقفت الفتاة التي أتاحت لها مكتبة والدها الاطلاع على كتب عديدة، باتجاهات مختلفة، فقرأت كتب المنفلوطي القديمة كلها، لكن شغفها بالحياة واللعب جرّ عليها قرارا كان صعبا “أبي زقطني وأنا العب الطابة مع الأولاد، فقال ما فيه دراسة في الأردن فسجلني في مدرسة شميت الداخلية بجانب مقبرة لوزميلا بالقدس”.

 

كانت الحياة بمدرسة “شميت” صارمة على الطفلة لمعة بسيسو، فقد كانت الساحة صغيرة، ويمنع مغادرتها، فظلت تشكو لوالدها الذي أرسلها هذه المرة إلى رام الله في مدرسة “الفرندز بعد أن أمضيت عاما في القدس”.

 

الحياة في رام الله بدت أفضل “انبسطت هناك وكنا نفيق من الساعة الخامسة ومازلت اعشق البخور وأجواء القداس”. وفي رام الله كان هناك معلمة لمادة اللغة العربية هي وديعة شطاره “كانت تراني جيدة بالكتابة والتعبير”.

 

قضت في رام الله ثلاثة أعوام، وأثناء ذلك “شفت حالي عليهم بسبب تقدمي في بعض المواد”. وبرغم أن رام الله أرحب من القدس إلا أن الحنين كان يفطر قلبها لعمان “كانوا يأخذوننا ثنتين ثنتين لكي نطلع شطحة في رام الله، وكنت أدفش الحجار برجلي، وكان الأولاد يدحشوا رسائل للبنات في رام الله تحت الحجارة أو في سناسل الكروم، ولكن والدي أوصاني عندما أرسلني للغربة أن عليّ ان اعرف حدودي”.

 

محطتها التالية بعد رام الله كلية بيروت للبنات، وهناك بقيت عامين، وكان معها من الأردن سلوى شويحات “كانت اخبر مني بكثير”.

 

في بيروت درست الأدب باللغة الانجليزية في زمن لم تكن فيه المرأة ولجت التعليم بشكل واسع، ولما عادت من بيروت لجأت إلى التعليم في مدرسة جبل عمان بأجر “تسعة دنانير في الشهر”. وتقول “كنت أعلّم في عدة صفوف من الثانوي للأول”، وكانت مديرة المدرسة يومها سيدة تركية اسمها ميسر البارودي، و”كانت مثقفة بشكل واسع”.

 

أيام عمان آنذاك كانت صعبة، وتؤكد أن “الأمير عبدالله كان يريد من السيدات عندما ينزلن إلى المدينة أن يلبسن الچادور، وأنا لم أكن البسه، وذات مرة شافونا نازلين أنا وأختي نعمت وكنا نرتدي ملابس فاتحة اللون وكان عمرنا 14 عاما ومش مغطيين، فجاء البوليس وإذا به الأمير عبدالله بنفسه بالسيارة، فقالت أختي نحن شركس شو بدكو فينا”.

 

في الأربعينيات كانت لمعة واحدة من نسوة قلائل كن يكتبن في المجلات، وكان معها من صديقاتها ثريا ملحس “كانت تكتب وهي من جيلي كتبت عدة مقالات أثارت ردودا قوية، فقررت أن أرد على منتقديها، وكان ردي يتميز بالسلاسة اللغوية ونشرت ذلك الرد بجريدة الأردن”.

 

مقالات أخرى نشرتها في مجلة الرائد، فقد كتبت في تموز 1945 تحت زاوية “نسائيات” بعنوان” الأردنية بين الجهل والعلم”، أشارت فيه على نمط الثقافة والتعليم والبيئة السليمة لتقدم المرأة الأردنية.

 

أحبت لمعة عمان وعشقتها “كنت أرى عمان أحلى بلد في الدنيا”، وهي تحمل في ذاكرتها قصة عمان عبر سبعة عقود، فتتحدث عن بنات عمان وعن مرافقها العامة ووجوه التسلية. وتقول “كنت اطلع أنا وصاحباتي من بنات عائلة ملحس على جبل عمان وكنا نجلس على الصخور، ثم لما تزوجت منيف كنا نخرج معا على الصخور، وكانت الكلاب تنبح علينا، وكنا نذهب لسينما البتراء قرب السيل.. لكن حياة بنات عمان يومها كانت كثير ضيقة”.

 

المرافق الخاصة بالنساء كانت قليلة في عمان “كان هناك كوافير بنزلة اللويبدة في أول شارع السلط، وهو من أصل ارمني”، كما أن المرأة كان رأيها في اختيار شريك حياتها محدود. وتتذكر “ذات مرة أرسل أحدهم رسالة إلى أبي يقول فيها لماذا تترك جواب البنت على الخاطبين بيدها، فأجابه أبي: أنا لا يوجد عندي جاريات”.

 

بالكاد تتذكر أم مؤنس تلميذاتها، ومنهن سعاد أبو الهدى، وتتذكر مدير المعارف الشيخ محمد علي الشنقيطي وكيف جعل “الفرصة بين الفترتين الصباحية والمسائية طويلة، كما ترى أن رئيس الحكومة سمير الرفاعي كان صعباً”.

 

العام 1949 تزوجت د. منيف الرزاز “كنت أقول لا يمكن أن أتزوج شخصا لأنه مهندم وحلو”. تعرفت إلى منيف بواسطة أخيها وليد، أول لقاء كان أثناء الدراسة في بيروت، ثم التقيا في عيادته ذات مساء، وقد أرادت أن تأخذ إبر تقوية، وتتذكر أنه سألها ذات مرة إن كانت تريد الزواج من شخص غني أم لا.

 

تبين لمعة أنها لما خطبت د. منيف الرزاز كانت صاحباتها يقلن لها “هذا ما عنده ارض ومال، على أيش أخذتيه؟”، وكانت ترد: “على مخه”. كان منيف في ذلك الوقت اكثر اهتماما بالسياسة منه إلى الطب، ومع ذلك كان يجد وقتا خاصا لزوجته “كان يأخذني للسينما، وكنا نجلس ونجلب انتباه الحاضرين فوق الدكاكين”.

 

من بيت صالح بسيسو الذي كان يعج بالوطنيين، انتقلت لمعة إلى بيت كان يشهد اجتماعات جيل جديد من القوميين والوطنيين، يومها كان منيف واحدا من مجموعة أطباء يصفهم عبدالرحمن منيف في كتابه “سيرة مدينة” بالقول “هكذا كانت ملامح الصورة الطبية في عمان أوائل الأربعينيات… كان هناك أطباء آخرون لكن لكل منهم أوضاعه الخاصة.. الطبيب يوسف عزالدين الذي كان بيته وعيادته قرب المدرج الروماني والطبيب جميل التوتنجي طبيب القصر الخاص، وهو سياسي، وفي فترة لاحقة منتصف الأربعينيات سوف تصل كوكبة من الأطباء المميزين طبيا وإنسانيا وسياسيا ومنهم عبد الرحمن شقير ومنيف الرزاز، وبعد فترة نبيه ارشيدات وجورج حبش ووديع حداد”، ولكن هؤلاء أسهموا في السياسة أكثر من الطب.

 

ومع ولع الزوج بالسياسة إلا أن “أصحابه كانوا يحسدونه، كان يدخل عليه في الشهر 75 دينارا، وله عيادة بطريق وادي السير”، ولكنه مع دخوله عمق السياسة بات يتعرض للخسارة، “أول ما بدأ يتفاوض لعمل الحزب في الخمسينيات، صارت انتخابات للحزب فأغلق العيادة شهر وعملها مقر”. وتضيف “وقتها عقلي طار”.

زوجة الطبيب السياسي تؤكد عبر أوراقها التي فتحتها لنا أنها “صبرت على الوضع، وكلما تعقدت الأمور نما الحب أكثر “صار حب كبير بيننا.. كانوا يعتقلونه دائما”، وتعترف “كانت هذه هي عقدة مؤنس”، معترفة أن الطفل كان شديد التعلق بوالده.

 

ذات مرة أتت الشرطة لاعتقال منيف، وكي لا تلفت انتباه الطفل مؤنس لوالده وهو يعتقل “خليت البنت اللي عندي تلف مؤنس بالحرام، ولكنه قال لي فيما بعد: شفتهم داهنين وجههم اسود”.

 

الحب والزواج من مناضل لا يستمر إلا بتقاسم الأدوار والقبول واقتسام الحب والمرارة معا، وكما لمعتقل الجفر سيرته المرة، فله تعزى أجمل الرسائل التي كتبتها لمعة لمنيف الرزاز.

 

وكما أن الجفر معتقل فقد أضحى نقطة التقاء ومحطة لاستقبال الرسائل والطرود، تقول لمعة “كنت ابعث لمنيف كل أسبوعين صندوق فواكه بواسطة السيارات، وكنت أبين له بالرسائل أن أوضاعنا جيدة وأني مدبرة أموري بالمصاري برغم أنها كنت في الحقيقة صعبة جدا…كنت لا أريد أن أزيد على قلبه”.

 

تذكر أم مؤنس أن الراحل محمد رسول الكيلاني مدير المخابرات طلبها ذات صباح “أبو رسول صفى صديق لمنيف بالآخر، وكان احد الواشين كتب أن منيف اجتمع في أوتيل ببيروت بمجموعة، وأنه كان يحضر لانقلاب على الملك حسين، فأبو رسول راح وناداني وقال جيبي جواز السفر، فقلت له أرجعنا للقصة القديمة، قال والله انك صايرة زي سميحة المجالي زوجة هزاع، التي كانت لما تتصل المخابرات بها تصيح بهم، وأخذت جواز السفر وطلعت لأبي رسول وأخذت معي ابني عمر، وكان عمر يحسب أن السجن هو المستشفى، ولما تأكدوا وجدوا ان التهمة ملفقة”.

 

دخل زوجها منيف سجن الجفر مرات عديدة بين عامي 1958-1963، ووضع بإقامة جبرية بعيادته، وفي فترات الاعتقال كانت لمعة تتواصل وترسل له الرسائل وتطمئن على رفاقه الذين كانوا معه أمثال أنيس المعشر ومحمود المعايطة وحمدي الساكت وغيرهم.

 

كتبت له يوم  31/6/1963 تقول: “البيت خال بدونك، وحتى رنين ضحكات عمر لا يخفف كثيرا من شعور مؤنس وشعوري بالوحشة والوحدة، وهو يحس بأن شيئا غير عادي قد حدث..”.

 

تواصلت رسائلها لمنيف الرزاز في الجفر، وبعد شهرين كتبت إليه بتاريخ 20/8/1963 تقول: “لا أكاد افرغ من الكتابة إليك حتى اشعر بحاجة للكتابة ثانية، ولو خلال وريقة تحمل عباراتي وأشواقي، مما يجعلني اشعر انك قريب مني.. حتى مؤنس استمرت ثورته عليك إلى ما بعد الظهر ثم طلب رسائلك ثانية ليقرأها..”.

 

تقلبت الأحوال بالزوج المناضل، فانتخب أمينا عاما لحزب البعث العربي الاشتراكي في سورية، فرحلت معه لدمشق “سكنا قرب منطقة معرض دمشق الدولي القديمة، وأول ما رحنا صار انقلاب صلاح جديد على أمين الحافظ، فأضحت الحياة صعبة، وكان بيت عبدالرحمن شقير يساعدنا، وجاءت بنته ماوية ونامت عنا”.

 

بعدها حكم على منيف بالإعدام “جاءت جماعته وأخذته هو وابني عمر ووضعوهما في مكان ما بسوق الحميدية، في حين بقي مؤنس في بيت أحد الأصدقاء من عائلة السواح بدمشق، “أذكر أن مسلم بسيسو هو من هرّب منيف وأوصله إلى الحدود السورية اللبنانية ولبسوه لبس فلاح”.

 

وتنقلت لمعة مع زوجها إلى بيروت ثم  لجزيرة رودس ومنها إلى اليونان ثم إيطاليا فلندن. وبعد ذلك الترحال وجد منيف بعد حرب 1967 أن الهدف أصبح أكثر صعوبة، فعاد ليجدد دراسته في الطب، وسكنت الأسرة فترة بجانب محطة قطار لندن، ثم انتقلت لمنطقة ويمبلدون “كانت أجمل الأيام في بريطانيا واليونان، ثم عدنا لعمان بعد عفو عام أصدره الملك حسين رحمه الله”.

 

بعد العودة استأجرت الأسرة منزلا في جبل اللويبدة لداود عبدالهادي، ثم استأجرت بيتا آخر قرب مدرسة تراسنطه وبقيت في عمان بين عامي 1967 إلى 1977 ثم ذهب منيف للعراق، وهنا لا تنسى لمعة بسيسو يوم مغادرته للعراق “لما خرج من البيت عيونه كانت تبكي، قال لي رفعت عودة أحد أصدقائنا: أنا ما شفت واحد أتيحت له فرصة مثل ذلك ويبكي.. منيف فكر أن صدام ابن الحزب وتربى في صفوفه .. وأنا وزينة بنتي تبعناه فيما بعد.. وأول ما وصلنا عاملنا صدام مثل الطيور التي توضع بقفص ذهبي، وضعنا على نهر دجلة ببيت فخم، بعدها عرفت  قصة البيت بأنه لسيدة قتلوها وهي فارسية وصادروا بيتها”.

 

في بغداد لم يطل المقام والوعود، وسرعان ما مات الحلم وتغيرت رائحة النهر، إذ ما لبث منيف أن اتهم أنه دبر محاولة اغتيال لصدام حسين العام 1979، ليحكم علية بالإقامة الجبرية حتى العام 1986. كانت الوفاة صعبة على الزوجة إذ “دس له السم ليموت وينتق الدم من فمه”، لكن لمعة أبقت منيف بين ذراعيها لآخر لحظة بريق في عينيه، لتكتب فيما بعد:

“عينك يخبو فيها الضياء

يدك الدافئة

لن أحس بالبرودة فيها

يدك الدافئة أمسك بها بين أهدابي

استند إليها…أستريح”.